(صفحه296)
معتبر عند العقلاء، فإنّ جلّ ما اعتمدوا فيه على خبر العادل بل مطلق الثقة،يكون من الموضوعات الخارجيّة، لكنّ الشارع ردع عن العمل به فيها.
ب ـ أنّه لا يصحّ التوبيخ والملامة من قبل الشارع على عمل رائج عندالعقلاء قبل ردعه عنه، ألا ترى أنّ الشارع لم يلم ولم يصحّ أن يلوم في أوائلالبعثة على شرب الخمر الذي كان متداولاً بين العقلاء ولم يكن يحرّمه الشارعبعد.
إذا عرفت هذين الأمرين فنقول:
إنّ خبر العدل الواحد وإن لم يكن حجّة في الموضوعات عند الشارع، إلأنّه بيّن عدم حجّيّته بعد نزول آية «النبأ»، وأمّا في الأزمنة المتقدِّمة عليه أوالمقارنة له فجميع العقلاء كانوا يعملون به ولم يكن يردع الشارع المقدّس عنهبعد.
وعلى هذا فلابدّ من أن يرجع التوبيخ المستفاد من الآية الشريفة إلى عملقبيح عند العقلاء، وهو ينحصر في منطوقها، فكأنّه تعالى يقول: كيف اعتمدتمبلا تبيّن وتفحّص على إخبار الفاسق بارتداد قبيلة بني المصطلق عن الإسلامومخالفتهم لأوامر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فتهيّأتم لقتالهم؟!
وهذا بخلاف المفهوم، فإنّ خبر العادل وإن كان كخبر الفاسق في عدمحجّيّته في الموضوعات شرعاً، إلاّ أنّه حجّة عند العقلاء، ولم يكن المسلمونممنوعين من العمل به في زمن نزول الآية، فلا يلائمه اللوم والتوبيخ إثباتونفياً.
وبالجملة: التوبيخ في الآية الشريفة لا يرتبط بجهة شرعيّة، بل بجهةعقلائيّة جارية في خصوص المنطوق، فشأن نزول الآية ـ وهو الإخباربارتداد بني المصطلق ـ يختصّ بالمنطوق، فلا مانع من تخصيص المفهوم بما عد
ج4
الخبر الواحد القائم على الموضوعات الخارجيّة ـ كما قال المحقّق النائيني رحمهالله لعدم وروده في مورد خاصّ كي يستلزم التخصيص المستهجن.
هل «النبأ» يختصّ بالاُمور الخطيرة العظيمة؟
السادس: أنّ «النبأ» لا يصدق إلاّ فيما إذا كان المخبر به من الاُمور الخطيرةالعظيمة، ولا فرق بين خبر الفاسق والعادل في عدم حجّيّته فيها، فلا يمكن أنتدلّ الآية على المفهوم، وهو عدم وجوب التبيّن عن النبأ الذي جاء به العادل.
وفيه أوّلاً: أنّا لا نسلّم أنّ «النبأ» يختصّ بالأخبار المهمّة العظيمة، بل هومرادف للفظ «الخبر».
نعم، قد يوصف بوصف «العظيم» كما قال تعالى: «عَمَّ يَتَساءَلُونَ* عَنِ النَّبَالْعَظِيمِ»(1) فيستفاد حينئذٍ الأهمّيّة والعظمة من الوصف، لا من الموصوف.
وثانياً: أنّا لا نسلّم عدم حجّيّة الخبر الواحد في الاُمور المهمّة، فإنّ من قالبحجّيّته قال بها في الأحكام الشرعيّة، وهي كلّها اُمور خطيرة، ضرورة أنّه ليمكن الالتزام بعدم أهمّيّة الأحكام الإلهيّة التي إذا ثبتت وجبت متابعتها فيجميع الأعصار والأمصار.
إلى هنا تمّ ما أوردوه على خصوص آية «النبأ».
الإشكالات المشتركة بين آية «النبأ» وسائر الأدلّة
وهاهنا إيرادات اُخر لا تختصّ بها، بل تعمّ جميع ما استدلّ به على حجّيّةالخبر الواحد، وكان ينبغي ذكرها بعد بيان جميع تلك الأدلّة، لكنّهم أوردوه
(صفحه298)
أيضاً عقيب البحث عن آية «النبأ».
منها: أنّ أدلّة حجّيّة الخبر تعارض الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم،فتتساقطان ويرجع إلى أصالة حرمة التعبّد بالظنّ.
وفيه: ما تقدّم تفصيله من أنّ أدلّة حجّيّة الخبر واردة على تلك الآيات.
ومنها: أنّ حجّيّة الخبر الواحد تستلزم عدم حجّيّته، لشموله ما أخبر بهالسيّد المرتضى رحمهالله من الإجماع على عدم حجّيّته.
وقد اُجيب عنه بوجوه:
أ ـ ما تقدّم(1) في مبحث الإجماع المنقول من أنّ أدلّة حجّيّة الخبر الواحدتختصّ بالإخبار عن حسّ، ومدّعي الإجماع لم يحصّل رأي المعصوم عليهالسلام إلمن طريق الملازمة العقليّة أو العاديّة التي غايتها الحدس برأيه عليهالسلام .
ب ـ أنّ دعوى الإجماع على عدم حجّيّة الخبر الواحد معارضة بدعوىالشيخ الإجماع على حجّيّته، فيتعارضان ويتساقطان من دون أن تنثلم أدلّةالحجّيّة.
ج ـ أنّه يستحيل أن يندرج خبر السيّد هذا تحت أدلّة حجّيّة الخبر الواحد،لأنّه يستلزم عدم حجّيّة نفسه أيضاً، لكونه من مصاديق الخبر الواحد، وميلزم من وجوده عدمه فهو محال.
د ـ أنّه لا يمكن الجمع بين اعتبار خبر السيّد رحمهالله واعتبار سائر الأخبارالآحاد، فلابدّ من تخصيص أدلّة حجّيّة الخبر الواحد، إمّا بإخراج خبر السيّدعن تحتها، أو بإخراج سائر الأخبار، ولا يمكن الالتزام بالثاني، لاستلزامهتخصيص العامّ إلى حدّ لم يبق تحته إلاّ فرد واحد، وهو مستهجن غايةالاستهجان، فلابدّ من الذهاب إلى الأوّل والقول بحجّيّة جميع الأخبار إل
ج4
إخبار السيّد رحمهالله بالإجماع على عدم حجّيّة الخبر الواحد.
مناقشة المحقّق الخراساني رحمهالله في هذا الجواب الرابع
وقد أجاب المحقّق الخراساني رحمهالله في «حاشية الرسائل» عن الاستهجانبقوله: من الممكن جدّاً أن يكون المراد من الآية واقعاً هو حجّيّة خبر العادلمطلقاً إلى زمان خبر السيّد بعدم حجّيّته، كما هو قضيّة ظهورها من دون أنيزاحمه شيء قبله، وعدم حجّيّته بعده، كما هو قضيّة مزاحمة عمومها لسائرالأفراد وبعد شمول العموم له أيضاً، ومن الواضح أنّ مثل هذا ليس بقبيحأصلاً، فإنّه ليس إلاّ من باب بيان إظهار انتهاء حكم العامّ في زمان بتعميمهبحيث يعمّ فرداً ينافي ويناقض الحكم لسائر الأفراد، ولا يوجد إلاّ في ذلكالزمان، حيث إنّه ليس إلاّ نحو تقييد(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
وفيه: أنّ معقد الإجماع المنقول من قبل السيّد رحمهالله إنّما هو عدم حجّيّة الخبرالواحد بنحو السالبة الكلّيّة الشاملة للأخبار التي قبله وبعده جميعاً، فإنّ دعواهعدم حجّيّة الخبر الواحد بطبيعته وبإطلاقه، وهل يمكن الالتزام بأنّه رحمهالله تمسّكلإثبات هذه الدعوى بإجماع لا يثبت إلاّ قسماً منها؟!
ومنها: أنّ أدلّة حجّيّة الخبر الواحد تختصّ بالأخبار بلا واسطة، فلا تعمّالروايات المأثورة عن المعصومين عليهمالسلام لاشتمالها على وسائط.
ويمكن تقريب هذا الإشكال بوجوه عديدة:
الوجه الأوّل: دعوى انصرافها إلى الخبر بلا واسطة.
وفيه أوّلاً: أنّ منشأ الانصراف إمّا كثرة الوجود أو كثرة الاستعمال(2)،
- (1) حاشية كتاب فرائد الاُصول: 63.
- (2) والحقّ هو الثاني، فإنّ كثرة الاستعمال هي التي توجب اُنس الذهن بالمستعمل فيه، بحيث ينتقل إليهحين استعمال اللفظ. منه مدّ ظلّه.
(صفحه300)
وكلاهما منتفيان في المقام، لعدم كون الأخبار بلا واسطة أكثر وجوداً منغيرها، كيف وقد تداول نقل الأحاديث مع الواسطة من صدر الإسلام إلىزماننا هذا؟!
وهكذا مسألة كثرة الاستعمال، ضرورة أنّ استعمال «خبر العادل» في الخبربلا واسطة لا يكون أكثر من استعماله في غيره، بحيث ينتقل ذهن من سمعه إلىالأوّل.
وثانياً: أنّ انصرافها عن الأخبار مع الواسطة ـ على فرض تسليمه ـ يختصّبما إذا كثرت الوسائط كثرةً غير متعارفة، وأمّا الأخبار المنقولة بوسائط قليلةمتعارفة فلا نسلّم انصراف أدلّة حجّيّة الخبر عنها، وأحاديث الكتب الأربعةالتي هي أهمّ المنابع الحديثيّة عند الإماميّة منقولة إلينا بوسائط قليلة، وذلكلأنّ هذه الكتب لا تحتاج إلى وسائط بيننا وبين مؤلّفيها، لأنّ انتسابها إليهمأمرٌ مقطوع به(1)، فكأنّه تلقّينا أحاديث هذه الكتب من مؤلّفيها بلا واسطة،والوسائط الموجودة بينهم وبين أهل البيت عليهمالسلام لا تتجاوز عن المتعارف.
وثالثاً: أنّ الانصراف من أوصاف الأدلّة اللفظيّة، وأهمّ ما دلّ على حجّيّةالخبر الواحد هو بناء العقلاء مع عدم ردع الشارع عنه، ولا يمكن دعوىالانصراف فيه.
إن قلت: نعم، ولكن بناء العقلاء دليل لبّي، فلابدّ من الأخذ بالقدر المتيقّنمنه، وهو الأخبار بلا واسطة.
قلت: إنّ العقلاء يعملون بالأخبار المنقولة إليهم بوسائط قليلة متعارفة، كميعملون بالأخبار بلا واسطة، فلا نشكّ في شمول بناء العقلاء لمثل ما بأيدين
- (1) فلا دخل للإجازات الروائيّة المنتهية إلى المشايخ الثلاثة في إثبات انتساب الكتب الأربعة إليهم.منه مدّ ظلّه.