(صفحه262)
بين الثلاث والأربع» إلاّ أنّ موافقته له في المقام مشكوكٌ فيها.
كما أنّه يمكن أن يُقال: لا دليل على حجّيّة الإشعار ما لم يبلغ إلى حدّالظهور، فلا يصحّ الاستدلال على حجّيّة الشهرة الفتوائيّة بكون الحكم المعلّقعلى الوصف في قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» مشعراً بعلّيّته.
حجّيّة الشهرة الفتوائيّة بين القدماء
نعم، إنّ المقبولة لا تقصر عن الدلالة على حجّيّة الشهرة الفتوائيّة عندالقدماء، بخلاف الشهرة عند المتأخِّرين.
والسرّ في ذلك أنّ القدماء كانوا يفتون على طبق الروايات، بل كثيراً مكانوا ينقلون عين ألفاظها بعنوان الفتوى، ولذا سمّيت كتبهم الفقهيّة بالاُصولالمتلقّاة عن المعصومين عليهمالسلام ، وهذه الطريقة كانت تستمرّ إلى زمن الشيخالطوسي رحمهالله ، وكانت العامّة يطعنون على فقهاء الشيعة ويقولون: إنّ الشيعةـ لأجل جمودهم على الروايات المأثورة عن أئمّتهم ـ لا يقدرون علىالاستنباط وبيان أحكام الفروعات، وأمّا نحن فنتمكّن ببركة القياسوالاستحسان على الاجتهاد والتفريع في جميع الموضوعات حتّى في المسائلالمستحدثة.
فالشيخ رحمهالله بعد تأليف كتاب «النهاية» على طريقة القدماء ألّف «المبسوط»الذي هو كتاب تفريعي، ليثبت أنّ استنباط الأحكام وبيان الفروعاتلا يتوقّف على اتّباع مثل القياس والاستحسان، بل الشيعة أيضاً تتمكّن منالاجتهاد والتفريع.
هذا حاصل ما ذكره الشيخ رحمهالله في مقدّمة «المبسوط»(1).
ج4
ثمّ تبعه من تأخّر عنه في تأليف الكتب التفريعيّة وأعرضوا عن طريقةالقدماء. فالشهرة الفتوائيّة بين القدماء مستندة إلى الروايات المأثورة عن أهلالبيت عليهمالسلام ، فتندرج تحت التعليل الوارد في المقبولة الدالّ على أنّ «الروايةالمشهورة من حيث الفتوى لا ريب فيها».
بخلاف الشهرة الفتوائيّة بين المتأخّرين، لأنّ تأليفاتهم مليئة من الفروعاتالفقهيّة المستنبطة، فإذا أفتى المشهور بحكم، لا نعلم كونه مستنداً إلى حديثليصدق عليه «الرواية المشهورة من حيث الفتوى».
كأنّ قائلاً يقول: يمكن تقريب دلالة المقبولة على حجّيّة الشهرةالفتوائيّة حتّى بين المتأخّرين، وذلك لأنّ لفظ «المجمع عليه» وإن كانبمعنى «الرواية المشهورة» في الفقرة الاُولى من المقبولة ـ وهي قوله عليهالسلام : «ينظرإلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك» إلاّ أنّه يعمّ الشهرة الفتوائيّة في الفقرة الثانية ـ وهي قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليهلا ريب فيه» ـ لأنّه في مقام التعليل، والتعليل يكون بمنزلة كبرى كلّيّة، فكلمة«ال» فيه تفيد العموم، فكأنّه عليهالسلام قال: «انظر إلى الرواية المشهورة بينأصحابك فخذ بها ودع الشاذّ الذي ليس بمشهور عندهم، لأنّ كلّ مشهور لريب فيه».
وبالجملة: التعليل عامّ وإن كان المورد خاصّاً.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
وناقش فيه المحقّق النائيني رحمهالله بقوله:
ولا يخفى عليك ضعف الاستدلال؛ لأنّ التعليل ليس من العلّة المنصوصة
(صفحه264)
ليكون من الكبرى الكلّيّة التي يتعدّى عن موردها، فإنّ المراد من قوله: «فإنّالمجمع عليه لاريب فيه» إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرةالفتوائيّة، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله عليهالسلام : «ممّا لا ريبفيه» عليه بقول مطلق، بل لابدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافةإلى ما يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّيّة، لأنّه يعتبر فيالكبرى الكلّيّة صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها، كما في قوله:«الخمر حرام لأنّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يُقال: «لا تشرب المسكر» بلا ضمّالخمر إليه، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك؛ لأنّه لا يصحّ أنيقال: «يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله» وإلاّ لزمالأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق، وغيرذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها، فالتعليل أجنبيّ عن أنيكون من الكبرى الكلّيّة التي لا(1)يصحّ التعدّي عن مورده(2)، إنتهى كلامه.
نقد ما أورده المحقّق النائيني رحمهالله على التعليل
ويمكن أن يُجاب عنه بأنّ التعليل يفيد الكبرى الكلّيّة ويجوز التعدّي عنمورده من دون أن يترتّب عليه ما ذكره من التوالي الفاسدة، وذلك لأنّلا نسلّم أن يكون المراد بـ «عدم الريب» في التعليل عدم الريب الإضافي، بلعدم الريب المطلق.
لكن ليس المراد منه عدم الريب بحسب نظر العقل كي لا يتحمّل احتمالالخلاف أصلاً، بل المراد عدم الريب عرفاً بحيث يعدّ طرفه الآخر شاذّاً نادراً ل
- (1) الظاهر زيادة كلمة «لا» كما قال المصحّح. م ح ـ ى.
- (2) فوائد الاُصول 3: 154.
ج4
يعبأ به عند العقلاء، فإنّ العرف يعامل مع الاطمئنان معاملة العلم واليقينويعدّه ممّا لاريب فيه، ولهذا عدّ مثل تلك الشهرة بالمجمع عليه بين الأصحاب،لعدم الاعتداد بالقول المخالف الشاذّ، وهذا غير موجود في الموارد التيعدّها رحمهالله ، فإنّ ما ذكره من الموارد ليس ممّا لا ريب فيه عند العرف بحيث صارالطرف المقابل أمراً غريباً غير معتنى به.
وبالجملة: كلّ ما لا ريب فيه عند العرف، وكان العقلاء لا يعتنون باحتمالخلافه يجب الأخذ به، ولا شبهة في عدم ورود النقوض والتوالي الفاسدة التيذكرها عليه، فإنّ صرف الرجحان وأقوى الشهرتين وصرف الظنّ لا يعدّ ممّلاريب فيه عرفاً ما لم يصل إلى حدّ الاطمئنان.
هذا، ولكنّ الإنصاف أنّ لفظ «المجمع عليه» في التعبير الثاني أيضاً ظاهر في«الرواية المشهورة» كالتعبير الأوّل، ولو لم يكن ظاهراً فيها فلا يكاد ينبغيإنكار عدم ظهوره في خلافها، فلا نسلّم أن تكون «ال» مشيرة إلى الرواية فيالفقرة الاُولى، ومفيدة للعموم في الفقرة الثانية.
وحاصل جميع ما تقدّم: أنّ الشهرة في المقبولة إن كانت الشهرة الروائيّةفلاتعمّ الشهرة الفتوائيّة أصلاً، وأمّا بناءً على ما استظهرناه من أنّها هي شهرةالرواية من حيث العمل والفتوى فتدلّ على حجّيّة الشهرة بين القدماء دونالمتأخّرين.
هذا تمام الكلام في مقبولة عمر بن حنظلة التي قد عرفت أنّها هي العمدةمن بين ما استدلّ به في المسألة.
وأمّا «مرفوعة زرارة»(1) فلا ظهور لها في اعتبار الشهرة في الفتوى، لكونه
- (1) وهي ما رواه العلاّمة مرفوعاً إلى زرارة بن أعين، قال: سألت الباقر عليهالسلام فقلت: جعلت فداك، يأتي عنكمالخبران أو الحديثان المتعارضان، فبأيّهما آخذ؟ قال عليهالسلام : «خذ بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذّ النادر».الحديث. مستدرك الوسائل 17: 303، كتاب القضاء، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
(صفحه266)
فاقدة للتعليل.
كما أنّ توهّم دلالة أدلّة الخبر الواحد عليه بالفحوى، لكون الظنّ الذيتفيده أقوى ممّا يفيده الخبر فيه ما لا يخفى، لما ذكره المحقّق الخراساني رحمهالله (1) منأنّ أدلّة حجّيّة الخبر الواحد لا تدلّ على كون مناط اعتباره إفادته الظنّ،غايته تنقيح ذلك بالظنّ، وهو لا يوجب إلاّ الظنّ بأنّ الشهرة الفتوائيّة أولىبالاعتبار، ولا اعتبار بالظنّ ما لم يقم دليل على اعتباره.
- (1) راجع كفاية الاُصول: 336.