الحديث.
فلابدّ من تركيز البحث على دلالته، ولابأس بالبحث في الوجوه المحتملةفيه بحسب مقام الثبوت أوّلاً، ثمّ في ما دلّ عليه بحسب مقام الاستظهاروالإثبات ثانيا، فنقول:
أمّا بحسب مقام الثبوت، فلابدّ من ملاحظة معاني الألفاظ المستعملة فيالحديث لكي يتّضح الوجوه المحتملة فيه.
أمّا كلمة «مطلق» فحيث إنّه استعمل هاهنا في مقابل «النهي» فلامحالة كانبمعنى «مباح» وهل اُريد به «الإباحة الشرعيّة الواقعيّة» أو «الظاهريّة» أو«الإباحة العقليّة(1)»؟ فيه وجوه.
ولا ريب في أنّ الوجه الثاني هو الذي يرتبط بمسألة البرائة، لكونه عبارةًعن الإباحة الظاهريّة في مورد الشكّ في الحكم الواقعي.
وأمّا الإباحة الشرعيّة الواقعيّة ـ التي موضوعها هو الأشياء بعناوينهالأوّليّة لا بما هي مشكوكة الحكم ـ والإباحة العقليّة فأجنبيّتان عن المقام، كملا يخفى.
أ ـ أن يكون بمعنى جعل الحكم.
ب ـ أن يكون بمعنى وصول الحكم إلى المكلّف.
و على هذا الاحتمال الثاني لا يصدق «الورود» على جعل الحكم واقعا ما لميصل إلى المكلّف.
ولا يخفى أنّ الاستدلال بالحديث لا يتمّ إلاّ على هذا الاحتمال، لأنّ الكلامفي باب البرائة إنّما هو في أنّ شرب التتن مثلاً لو كان في الواقع حراما، لكنّالمكلّف كان شاكّا في حكمه الواقعي، لعدم وصوله إليه، فهل يجوز له التمسّكبأصالة البرائة أم لا؟
ما المراد من كلمة «نهي»؟
لا ريب في أنّ كلّ نهي لابدّ من أن يتعلّق بشيءٍ، والمراد من النهي هاهنإمّا النهي المتعلّق بالعناوين الواقعيّة أو الأعمّ منه ومن الظاهري، كالمستفاد منالاحتياط.
ولا يخفى عليك أنّ النهي لو كان أعمّ لتقدّم أدلّة الاحتياط ـ على فرضتماميّتها ـ على هذا الحديث، لأنّه يدلّ على كون حلّيّة الأشياء مشروطة بعدمورود النهي، وأدلّة الاحتياط وإن لم تكن بلسان النهي، إلاّ أنّها بمعناه، حيث إنّالاحتياط في شرب التتن مثلاً هو الاجتناب عنه.
بخلاف ما إذا اُريد منه خصوص النهي المتعلّق بالعناوين الواقعيّة، فحينئذٍيقع التعارض بينه وبين أدلّة الاحتياط كما لا يخفى.
وقد أشرنا إلى أنّ الاستدلال بالحديث في مبحث البرائة مبنيّ على ما إذاُريد من «الإطلاق» الإباحة الظاهريّة، ومن «الورود» الوصول إلى المكلّف.
نعم، لافرق في ذلك بين كون «النهي» متعلّقا بالعناوين الواقعيّة وبين كونه
(صفحه404)
أعمّ منه وممّا تعلّق بالأشياء بعنوان أنّها مجهولة الحكم، لكنّه بناءً على الأوّليدلّ على عدم وجوب الاحتياط، فلوتمّت أدلّة الاحتياط سندا ودلالةً لوقعالتعارض بينهما.
وبناءً على الثاني كان مدلوله شبيه قاعدة قبح العقاب بلابيان، فكان أدلّةالاحتياط واردة عليه، لكونها بيانا له.
البحث حول ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام
ذهب المحقّق الاصفهاني رحمهالله إلى امتناع احتمالين من الاحتمالات المتقدّمة:
الأوّل: أن يراد من «الإطلاق» في قوله: «كلّ شيءٍ مطلق حتّى يرد فيهنهي» الإباحة الشرعيّة الواقعيّة، ومن «الورود» أصل صدور النهي منالشارع، سواء وصل إلى المكلّف أم لم يصل.
و ذلك لأنّ الشيء لا يمكن أن يكون مباحا واقعا إلاّ إذا لم يكن فيه اقتضاءالمصلحة ولا اقتضاء المفسدة، وما كان كذلك لا يمكن أن يتعلّق به النهي،لكونه كاشفا عن المفسدة، فالجمع بين إباحة كلّ شيء واقعا بمقتضى «كلّشيء مطلق» وبين تحريم بعضها بمقتضى «حتّى يرد فيه نهي» أمر مستحيل،لكونه كاشفا عن كون ذلك البعض المحرّم مقتضيا للمفسدة وغير مقتضٍ لها،وهذا ممتنع.
لا يقال: يمكن أن يكون الشيء بعنوانه الأوّلي مباحا، وبعنوان آخر حراما،كالماء المغصوب، فإنّه بما أنّه ماء يكون مباحا، وبما أنّه مغصوب يكون حراما.
فإنّه يقال: هذا خلاف ظاهر الحديث، فإنّه ظاهر في تعلّق الإباحة والنهيبشيء واحد.
هذا إذا اُريد ما هو ظاهر الخبر من كون الإباحة مغيّاةً بورود النهي في
ج4
موردها. وأمّا إذا اُريد بورود النهي تحديد الموضوع وتقييده، بأن يكون المرادأنّ ما لم يرد فيه نهي مباح، وأنّ ما ورد فيه نهي ليس بمباح، فهو إن كان بنحوالمعرّفيّة فلامحالة يكون حمل الخبر عليه حملاً على ما هو كالبديهي الذي ليناسب شأن الإمام عليهالسلام ، وإن كان بمعنى تقييد موضوع أحد الضدّين بعدم الضدّالآخر حدوثا أو بقاءً فهو غيرمعقول، لأنّ عدم الضدّ ليس شرطلوجود ضدّه لاحدوثا ولابقاءً، ولا معنى لتقييد موضوع الإباحة بعدم ورودالنهي حقيقةً إلاّ شرطيّته(1).
هذا حاصل ما أفاده رحمهالله في أوّل الاحتمالين الذين قال بامتناعهما.
ويمكن أن يناقش فيه بأنّ الأحكام ـ ومنها الإباحة ـ وإن كانت تابعةللمصالح والمفاسد، إلاّ أنّ هذه المصالح والمفاسد كما تكون في نفس متعلّقاتالأحكام يمكن أن تكون خارجةً عنها، وكان صدور الأمر أو النهي بلحاظهذه المصحلة أو المفسدة الخارجة.
ألاترى أنّ جلّ النجاسات تكون نجاستها لأجل قذارة ذاتيّة، بخلافالمشرك أو مطلق الكافر، ضرورة أنّا نعلم أنّه بنفسه ليس حاملاً للخباثةوالقذارة، ولعلّ الوجه في الحكم بنجاسته أنّ الشارع كره الاختلاط التامّ بينهوبين المسلمين، لأنّ في الاختلاط مظنّة تأثّرهم من أفكاره الباطلة، فجعلهنجسا ليجتنبوا عنه.
فلعلّ بعض الأحكام التكليفيّة أيضا كانت تابعة لمصلحة أو مفسدةخارجة عن ذات متعلّقاتها، فيمكن أن يحكم الشارع بإباحة الشيء واقعبلحاظ خلوّه ذاتا عن المصلحة والمفسدة، ثمّ ينهى عنه لأجل مفسدةخارجيّة.
(صفحه406)
وأمّا ما ذكره رحمهالله ـ من عدم إمكان تقييد موضوع الإباحة بعدم ورود النهي،لأنّ عدم الضدّ ليس شرطا لوجود ضدّه لاحدوثا ولا بقاءً ـ فيظهر جوابه ممّتقدّم في مسألة «اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضدّه» من اختصاص التضادّبالتكوينيّات، فلا تضادّ في الأحكام التي هي من الاعتباريّات.
وأمّا ما أفاده رحمهالله ـ من عدم إمكان إرادة تحديد الموضوع وتقييده بورودالنهي بنحو المعرّفيّة، لاستلزامه حمل الخبر على ما هو كالبديهي الذي ليناسب شأن الإمام عليهالسلام ـ ففيه: أنّ الأشياء قبل ورود الشرع محكومة بأصالةالإباحة أو الحظر العقليّة ـ على اختلاف في ذلك ـ من دون أن تكون محكومةبحكم شرعي أصلاً، وأمّا إذا ورد في لسان الشرع: «كلّ شيء مطلق حتّى يردفيه نهي» يدلّ على أنّ ما لم يرد فيه نهي مباح شرعا، وما ورد فيه نهي ليسبمباح كذلك، ولا يتمكّن الإنسان من إدراك ما هو مباح أو غيرمباح فيالشريعة قبل بيان الشارع، فكيف يمكن القول بأنّ مدلول الرواية على هذالفرض أمر بديهي لا يناسب شأن الإمام عليهالسلام ؟!
الثاني من الاحتمالين الذين ذهب المحقّق الاصفهاني رحمهالله إلى امتناعهما: هو أنيراد من «الإطلاق» الإباحة الشرعيّة الظاهريّة، ومن «الورود» صدور النهيمن الشارع، سواء وصل إلى المكلّف أم لم يصل، وذكر لإثبات امتناع هذالاحتمال وجوها ثلاثة:
أ ـ أنّ الإباحة الظاهريّة التي موضوعها المشكوك لا يعقل أن تكون مغيّاةًإلاّ بالعلم، ولا محدّدة إلاّ بعدمه، لا بأمر واقعي يجامع الشكّ، وإلاّ لزم تخلّفالحكم عن موضوعه التامّ.
وبعبارة اُخرى: كان مفاد الرواية على هذا الاحتمال «كلّ شيء شكّ في أنّهمباح أو حرام واقعا فهو مباح ظاهرا حتّى يرد فيه نهي من قبل الشارع،