ج4
في الشهرة الفتوائيّة
الفصل الثالث: في الشهرة الفتوائيّة
الشهرة في الاصطلاح على ثلاثة أقسام:
أ ـ «الشهرة الروائيّة» وهي عبارة عن شيوع نقل الخبر من قبل الرواة، كأنينقل في كثير من المجاميع الروائيّة، سواء اشتهر العمل به أيضاً أم لا.
ب ـ «الشهرة العمليّة» وهي عبارة عن شيوع العمل بحديث خاصّ منقبل الفقهاء، كما إذا أفتى المشهور بحكم خاصّ واستندوا فيه إلى خبر خاصّ،سواء اشتهر ذلك الخبر من حيث الرواية أيضاً أم لا.
فالنسبة بين الشهرة الروائيّة والعمليّة عموم من وجه، إذ ربّ حديث كانمشهوراً بحسب الرواية متروكاً من حيث العمل، وربّ حديث لم ينقله إلاّ راوٍواحد واشتهر الفتوى على طبقه، ومادّة الاجتماع بينهما ما إذا شاع نقل الخبرمن قبل الرواة واشتهر العمل به أيضاً، كما تحقّق في كثير من الأحاديث.
ج ـ «الشهرة الفتوائيّة» وهي عبارة عن شيوع الفتوى عند الفقهاء بحكمشرعي(1) من دون أن يستندوا في ذلك إلى حديث خاصّ(2).
وهذا القسم الثالث هو محلّ الكلام في المقام، فإنّهم اختلفوا في أنّ الشهرةفي الفتوى هل هي حجّة بالخصوص أم لا؟
- (1) على وجه لا تبلغ الشهرة درجة الإجماع الموجب للقطع أو الاطمئنان بقول المعصوم عليهالسلام . م ح ـ ى.
- (2) سواء لم يكن هناك حديث، أو كان ولكنّهم لم يستندوا إليه فيما أفتوا به. م ح ـ ى.
(صفحه258)
وعمدة ما استدلّ به المثبتون مقبولة عمر بن حنظلة.
وهي ما رواه داود بن الحصين عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبعبداللّه عليهالسلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث... فكيفيصنعان؟ قال: «ينظران إلى من كان منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر فيحلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكمحاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه وعلينا ردّ،والرادّ علينا الرادّ على اللّه وهو على حدّ الشرك باللّه».
قلت: فإن كان كلّ رجل اختار رجلاً من أصحابنا فرضيا أن يكونالناظرين في حقّهما، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟
قال: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهمولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر».
قال: قلت: فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا لا يفضّل واحد منهما علىالآخر؟
قال: فقال: «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمععليه من أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهورعند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه، وإنّما الاُمور ثلاثة: أمرٌ بيّن رشدهفيتّبع، وأمرٌ بيّن غيّه فيُجتنب، وأمرٌ مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله، قالرسول اللّه صلىاللهعليهوآله : حلالٌ بيّن وحرامٌ بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجمن المحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيثلا يعلم»(1). الحديث.
تقريب الاستدلال بها أنّ المراد بـ «المجمع عليه» في الموضعين هو المشهور،
- (1) الكافي 1: 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
ج4
بقرينة إطلاقالمشهور عليه في قوله عليهالسلام : «ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور»(1).
إن قلت: إنّ الشهرة في المقبولة هي الشهرة الروائيّة، بقرينة كونها في مقامبيان ترجيح الخبر المشهور على الخبر الشاذّ عند تعارضهما، فلا ترتبطبالشهرة الفتوائيّة التي هي المتنازع فيها.
قلت: كلمة «ال» في قوله عليهالسلام : «المجمع عليه» وإن كانت تشير إلى الرواية،فالمراد به «الرواية المشهورة» إلاّ أنّ في نفس المقبولة قرينتين على عدم إرادةالشهرة من حيث الرواية:
1ـ قوله عليهالسلام : «فيؤخذ به من حكمنا ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عندأصحابك» فإنّه يدلّ على أنّ المشهور هو حكمهم عليهمالسلام ، مع أنّه لا ملازمة بينالشهرة الروائيّة وبين كون الحكم المستفاد من الرواية حكم اللّه الواقعي،لإمكان أن يكون الرواية المشهورة المذكورة في غالب المجاميع الروائيّة صادرةعلى وجه التقيّة، لا لبيان الحكم الواقعي.
فيعلم أنّ المسألة لا ترتبط بنقل الرواية، بل ترتبط بمفادها الذي يستند إليهحكم القاضي، فالحكم المستند إلى الرواية المشهورة بحسب المفاد والمضمونراجح على الحكم المستند إلى الرواية الشاذّة بحسبه.
2ـ قوله عليهالسلام : «وإنّما الاُمور ثلاثة: أمرٌ بيّن رشده فيتّبع، وأمرٌ بيّن غيّهفيُجتنب، وأمرٌ مشكل يردّ علمه إلى اللّه وإلى رسوله» فإنّه لا يكاد يرتبط بمقبله إلاّ إذا اُريد بـ «المجمع عليه» الحديث المشهور من حيث الحكم المستفادمنه، فإنّه هو الذي رشده بيّن، وأمّا المشهور من حيث الرواية والنقل فقطفليس من مصاديق بيّن الرشد كما لا يخفى.
- (1) ويؤيّده أنّ السائل أيضاً فهم أنّ الإجماع في كلام الإمام عليهالسلام بمعنى الشهرة، ولذا سأله بقوله: «فإن كانالخبران عنكم مشهورين قد رواهما الثقات عنكم؟». م ح ـ ى.
(صفحه260)
بل رعاية المناسبة بين الحكم والموضوع أيضاً تقتضي أن يكون «نفي الريب»في قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بلحاظ كون مضمون الحديثحكماً واقعيّاً لازم الاتّباع، لا بلحاظ صدوره، وهذا لا يناسب صرف الشهرةفي الرواية والنقل.
والحاصل: أنّ «المجمع عليه» في المقبولة عبارة عن الحديث الذي اشتهرحكمه، بأن ينطبق عليه عمل الأصحاب وفتاواهم.
إن قلت: قول السائل: «فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهمالثقات عنكم؟» لا يلائم الشهرة الفتوائيّة، لامتناع كون الخبرين المتعارضينمشهورين من حيث الفتوى، فكيف فرضهما السائل ولم يخطّئه الإمام عليهالسلام فيفرضه؟!
قلت: هذا الإشكال وارد لو كانت الشهرة بمعنى الأكثريّة، وأمّا إذا كانتبمعناها اللغوي ـ أعني «الوضوح والظهور»(1) ـ فلا يمتنع تحقّق الشهرتينالمتخالفتين، ويؤيّده أنّ بعض الفقهاء ـ كالمحقّق والعلاّمة ـ ربما كانوا ينسبونحكماً إلى المشهور وضدّه إلى الأشهر.
نعم، يمكن أن يستشكل على الاستدلال بالمقبولة في المقام بأنّ التعليل الذيلابدّ من تركيز البحث عليه ـ وهو قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لاريب فيه» يدلّ على أنّ الرواية المشهورة من حيث المفاد ومن حيث الفتوى لا ريب فيهمن جهة أنّ مفادها حكم اللّه تعالى(2)، وهذا لا يرتبط بالشهرة المبحوث عنحجّيّتها في المقام، فإنّ الكلام ـ كما عرفت ـ إنّما هو فيما إذا اشتهر الفتوى علىحكم من دون أن يستند إلى دليل ظاهر من آية أو رواية أو أصل، فإنّ
- (1) قال في «المعجم الوسيط»: الشهرة: ظهور الشيء وانتشاره، وقال في «المصباح المنير»: شهرته بينالناس: أبرزته.
- (2) فالشهرة في المقبولة تنطبق على «الشهرة العمليّة» لا على «الشهرة الفتوائيّة» الاصطلاحيّة. م ح ـ ى.
ج4
الإجماع المستند إلى مدرك خاصّ لا قيمة له، فضلاً عن الشهرة، بل لابدّحينئذٍ من ملاحظة مستند الإجماع أو الشهرة لا ملاحظة أنفسهما كما لا يخفى.
تقريب آخر لدلالة المقبولة على حجّيّة الشهرة الفتوائيّة
وهاهنا بيان آخر لاستفادة حجّيّة الشهرة الفتوائيّة من المقبولة، وهو أنّالحكم المعلّق على وصف يشعر بأنّ ذلك الوصف تمام ملاكه، ولا دخلللموصوف فيه، وعلى هذا فتمام الملاك في نفي الريب هاهنا إنّما هو كون الروايةمشهورة من حيث الفتوى، وأمّا نفس الرواية فلا دخل لها فيه، فإذا اشتهرالفتوى على حكم يحكم أيضاً بأنّه لا ريب فيه، ولو لم يكن له مدرك ودليلأصلاً.
بل يمكن دعوى التعميم بإلغاء الخصوصيّة أيضاً، فإنّا كما نقول بعدمخصوصيّة «الرجل» في الأحاديث المرويّة في الشكّ في ركعات الصلاة(1)،ونحكم بشمول الحكم الصادر من قبل الإمام عليهالسلام لكلّ من شكّ في ركعاتها،سواء كان رجلاً أو امرأةً، كذلك نقول بعدم خصوصيّة «الرواية» في المقام،فكما أنّ «الحديث المشهور لاريب فيه» بمقتضى المقبولة، كذلك «الفتوىالمشهور» وإن لم يكن مستنداً إلى دليل ظاهر.
نقد هذا التقريب
لكنّ الإنصاف أنّ إلغاء الخصوصيّة لابدّ من أن يكون بنظر العرف وتأييده،ولقائل أن يقول: إنّ نظر العرف وإن كان يساعد الإلغاء في مثل «رجل شكّ
- (1) وسائل الشيعة 8 : 214 و 216 و 219، كتاب الصلاة، الباب 9 و 10 و 11 من أبواب الخلل الواقعفي الصلاة.