وموضوع الآخر هو مقطوع الحكم، فإذا قال المولى: «إذا قطعت بوجوبصلاة الجمعة تحرم عليك صلاة الجمعة»(1) فالوجوب قد تعلّق بصلاة الجمعةبما هي، والحرمة قد تعلّقت بها بما هي مقطوعة الوجوب، فيكون موضوعالحكمين متعدّداً بحسب الجعل، ولا ضير في أن يكون شيء بعنوانه الأوّليواجباً، محبوباً، ذا مصلحة لازمة الاستيفاء، وبعنوان أنّه مقطوع الوجوبحراماً، مبغوضاً، ذا مفسدة لازمة الاجتناب.
والحقّ في المقام ما ذكره سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله من التفصيل بينكون القطع تمام الموضوع للحكم المضادّ، وبين كونه بعض الموضوع، فقالبالجواز في الأوّل، والامتناع في الثاني، لأنّ مصبّ الحكم المضادّ الثانوي إنّمهو عنوان المقطوع بلا دخالة الواقع فيه(2)، وهو مع عنوان الواقع عموم منوجه، ويتصادقان على الموضوع الخارجي أحياناً، وقد أوضحنا في مبحثالنواهي أنّ اجتماع الحكمين المتضادّين ـ حسب اصطلاح القوم(3) ـ في عنوانينمختلفين متصادقين على مورد واحد، ممّا لا إشكال فيه.
هذا إذا كان القطع تمام الموضوع.
لحكمين متضادّين عموماً وخصوصاً مطلقاً، وقد قرّر في محلّه خروجه عنمصبّ البحث في مبحث الاجتماع والامتناع، وأنّهم تسالموا فيه على الامتناع.
لا يقال: المفروض أنّ العنوانين مختلفان في هذا القسم أيضاً، فلو كان التغايرالمفهومي كافياً في رفع الغائلة فليكن مجدياً مطلقاً.
لأنّا نقول: فكم فرق بين التغايرين، فإنّ التغاير في العموم من وجه حقيقي،والتقارن مصداقي، وأمّا الآخر فالمطلق عين المقيّد، متّحد معه اتّحاد اللابشرطمع بشرط شيء، كما أنّ المقيّد عين المطلق زيد عليه قيد، فلو قال: «أعتقرقبة» ثمّ قال: «لا تعتق رقبة كافرة» فلو لم يحمل المطلق على المقيّد لزم كونالشيء الواحد ـ وهو عتق الرقبة الكافرة ـ واجباً محبوباً ذا مصلحة ملزمة،وحراماً مبغوضاً ذا مفسدة ملزمة.
وكذلك الأمر فيما إذا قال: «صلاة الجمعة واجبة» ثمّ قال: «صلاة الجمعة إذكانت مقطوعة الوجوب وصادف القطع للواقع محرّمة»(1).
هذا حاصل ما أفاده الإمام رحمهالله في المقام، وهو دقيق متين.
أخذ القطع بحكم في موضوع مثله
وانقدح ممّا سبق، آراء أكابر الفنّ وما يرد عليها من المناقشات فيما إذا اُخذالقطع بحكم في موضوع مثله.
فإنّ من استدلّ هناك باستحالة اجتماع الضدّين ـ كالمحقّق الخراساني رحمهالله استدلّ هاهنا بامتناع اجتماع المثلين.
وجوابه هاهنا نظير الجواب هناك، فإنّ التماثل وامتناع اجتماع المثلينيختصّ بالاُمور الواقعيّة التكوينيّة، ولا يعمّ الاعتباريّات.
- (1) تهذيب الاُصول 2: 315.
ج4
ومن استدلّ هناك بامتناع اجتماع المصلحة والمفسدة أو الإرادة والكراهةاستدلّ هاهنا بعدم إمكان اجتماع المصلحتين(1)، أو الإرادتين، وكذلك اجتماعالمفسدتين(2) أو الكراهتين.
والجواب كالجواب، لتحقّق عنوانين هاهنا بينهما عموم من وجه، أحدهما:نفس صلاة الجمعة مثلاً، والثاني: كونها مقطوعة الوجوب، ولا يمتنع أن يكونكلّ منهما متعلّقاً للإرادة ومشتملاً على المصلحة، وإن تصادقا في الخارج علىصلاة واحدة.
نعم، يختصّ هذا القسم ببرهان آخر لا يجري في القسم السابق، وهو لزوماللغويّة.
لكنّه أيضاً مخدوش بأنّ بعض المكلّفين لا ينبعث إلاّ عقيب بعثين، ولينزجر إلاّ بواسطة زجرين.
وهذا وجه صحّة تعلّق النذر بالواجبات من دون أن يكون لغواً، فإنّالمكلّف حينما يرى نفسه متكاسلةً في الإتيان بالصلوات اليوميّة مثلاً ربما ينذرفعلها ليكون في معرض توجّه وجوبين، ويفكّر فيما يترتّب على تركها مناستحقاق عقوبتين، فيقوّى في نفسه الداعي إلى الإتيان بها.
والتحقيق هاهنا أيضاً يقتضي القول بالتفصيل، وهو القول بجواز أخذ القطعبحكم تمام الموضوع للحكم المماثل، وعدم جوازه فيما إذا كان بعض الموضوع،لصحّة تعلّق حكمين مستقلّين متماثلين بعنوانين بينهما عموم من وجه،واستحالة تعلّقهما بعنوانين بينهما عموم وخصوص مطلق.
أخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم
- (1) كالحكمين الوجوبيّين، كقول المولى: «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة يجب عليك صلاة الجمعة».م ح ـ ى.
- (2) كالحكمين التحريميّين، كقول المولى: «إذا قطعت بحرمة الخمر يحرم عليك الخمر». م ح ـ ى.
(صفحه96)
وذهب جمع من المحقّقين الفحول إلى استحالة أخذ القطع بحكم في موضوعنفسه، لاستلزامه الدور(1).
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وقال المحقّق النائيني رحمهالله : وأمّا أخذه موضوعاً بالنسبة إلى نفس الحكم الذيتعلّق العلم به فهو ممّا لا يمكن إلاّ بنتيجة التقييد.
توضيح ذلك: أنّ الانقسامات المرتبطة بالحكم على قسمين:
أ ـ ما هو سابق على الحكم، كما في الواجبات المشروطة، مثل مسألةالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، فإنّ المكلّف ينقسم إلى مستطيع وغير مستطيع،سواء وجب الحجّ أو لم يجب.
ب ـ ما هو لاحق للحكم، فلم يتحقّق إلاّ في رتبة متأخّرة عنه، كالعلمبالحكم والجهل به، فإنّ المكلّف لا يسمّى عالماً أو جاهلاً بالحكم إلاّ بعد جعلهمن قبل المولى.
لا إشكال في إمكان التقييد اللحاظي(2) والإطلاق في القسم الأوّل، كما قيّدوجوب الحجّ بالاستطاعة في قوله تعالى: «وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِاسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(3)، ولو لم يقيّده لا نعقد الإطلاق.
بخلاف القسم الثاني، فإنّ الانقسامات اللاحقة ـ كالعلم والجهل بالتكليف متأخّرة عن الحكم، فكيف يمكن للمولى لحاظها في مقام الجعل؟!
وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضاً؛ لأنّ التقابل بينهما من قبيل تقابل
- (2) أراد بـ «التقييد اللحاظي» أن يكون القيد ملحوظاً للمولى في مقام جعل الحكم؛ بخلاف «نتيجة التقييد»التي سيجيء توضيحها. منه مدّ ظلّه توضيحاً لكلام المحقّق النائيني رحمهالله .
ج4
العدم والملكة.
إن قلت: لا يمكن خلوّ الأحكام في مقام الثبوت من التقييد والإطلاق كليهمحتّى بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة، وإن لم يتمكّن المولى من إبلاغه إلىالعبد في قالب اللفظ، ضرورة أنّ ملاك كلّ حكم في الواقع ومقام الثبوت إمّمطلق يعمّ العالم والجاهل، أو مختصّ بالعالم، فهل للمولى طريق إلى إبلاغه إلىالعبد في الانقسامات اللاحقة، بعد أن امتنع فيها التقييد والإطلاق كلاهما فيمقام الجعل؟
قلت: نعم، يمكن بيان الإطلاق أو التقييد في هذا القسم من القيودبدليل آخر ـ غير ما به جعلت الأحكام ـ يسمّى متمّم الجعل، وينتج نتيجةالإطلاق تارةً ونتيجة التقييد اُخرى، كما ادّعي تواتر الروايات على اشتراكالأحكام في حقّ العالم والجاهل، ونحن وإن لم نعثر على تلك الروايات سوىبعض أخبار الآحاد التي ذكرها «صاحب الحدائق» في مقدّمة كتابه، إلاّ أنّالظاهر قيام الإجماع بل الضرورة على ذلك، ومن هنا كان الجاهل المقصّرمعاقباً إجماعاً.
ولكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص، وقد خصّصت في غير مورد، كما فيمورد الجهر والإخفات(1) والقصر والإتمام(2)، حيث قام الدليل على اختصاصالحكم في حقّ العالم، فقد اُخذ العلم شرطاً في ثبوت الحكم واقعاً.
فمن تلك الأدلّة التي نسمّيها «متمّمات الجعل» يستفاد نتيجة الإطلاق، وأنّالأحكام مطلقة في حقّ العالم والجاهل، إلاّ في مثل الجهر والإخفات والقصروالإتمام، حيث إنّ «متمّم الجعل» فيها يفيد نتيجة التقييد وأنّ ملاكات وجوبه
- (1) وسائل الشيعة 6: 86 ، كتب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.
- (2) وسائل الشيعة 8 : 506، كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3 و 4.