(صفحه186)
كشفاً ناقصاً، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاءً بإلغاء احتمال الخلاف في عالمالتشريع، كما ألغى احتمال الخلاف في العلم في عالم التكوين، فكأنّ الشارعأوجد في عالم التشريع فرداً من العلم، وجعل الطريق محرزاً للواقع كالعلمبتتميم نقص كشفه وإحرازه، ولذا قامت الطرق والأمارات مقام العلم المأخوذفي الموضوع على وجه الطريقيّة، كما تقدّم تفصيله.
وإذ قد عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأنّ المجعول فيهنفس الوسطيّة في الإثبات، ظهر لك: أنّه ليس في باب الطرق والأمارات حكمحتّى ينافي الواقعي ليقع في إشكال التضادّ أو التصويب، بل ليس حال الأمارةالمخالفة إلاّ كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقطمطلقاً، أصاب الطريق الواقع أو أخطأ، فإنّه عند الإصابة يكون المؤدّى هوالحكم الواقعي، كالعلم الموافق، ويوجب تنجيز الواقع وصحّة المؤاخذة عليه،وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذوريّة وعدم صحّة المؤاخذة عليه،كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول(1).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه ملخّصاً.
وأساسه يرجع إلى الكلام المتقدِّم من المحقّق الخراساني رحمهالله ، من أنّ التعبّدبطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيّته، والحجّيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاءأحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطريق.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في رفع الغائلة عن الأمارات
والجواب الأصلي هو الجواب المتقدِّم هناك.
لكن ينبغي البحث حول نكات اُخر من كلامه: بعضها صحيحة وبعضه
- (1) فوائد الاُصول 3: 105.
ج4
باطلة.
أمّا النكات الصحيحة:
فمنها: أنّ الأمارات المعتبرة عند الشارع هي الأمارات المعتبرة عندالعقلاء، وليست بتأسيسيّة. نعم، بعض الأمارات العقلائيّة مردودة شرعاً كمتقدّم، بل الظاهر أنّ بأيدينا أمارةً شرعيّةً غير عقلائيّة، وهي كون حسنالظاهر أمارة على العدالة التي هي الملكة الراسخة في نفس الإنسان الباعثة لهعلى إتيان الواجبات وترك المحرّمات، كما يدلّ عليه صحيحة ابن أبي يعفور(1)،فحسن الظاهر ـ ولو لم يفد الظنّ ـ أمارة على العدالة شرعاً، من دون أن يكونكذلك عند العقلاء.
فالنسبة بين الأمارات المعتبرة الشرعيّة والعقلائيّة عموم من وجه.
ومنها: أنّه ليس للشارع حكم ظاهري مجعول على طبق مؤدّى الطرقوالأمارات.
وأمّا المطالب المخدوشة:
فمنها: أنّه رحمهالله تخيّل أنّ كاشفيّة الأمارات وطريقيّتها ـ وبتعبيره رحمهالله : وسطيّته
- (1) وهي ما روي ـ في وسائل الشيعة 27: 391، كتاب الشهادات، الباب 41 من أبواب الشهادات، الحديث 1 عن عبداللّه بن أبي يعفور، قال: قلت لأبي عبداللّه عليهالسلام : بِمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتّى تُقبلشهادته لهم وعليهم؟ فقال: «أن تعرفوه بالستر والعفاف، وكفّ البطن والفرج واليد واللسان، ويعرفباجتناب الكبائر التي أوعد اللّه عزّ وجلّ عليها النار، من شرب الخمر، والزنا، والربا، وعقوق الوالدين،والفرار من الزحف، وغير ذلك، والدلالة على ذلك كلّه أن يكون ساتراً لجميع عيوبه حتّى يحرم علىالمسلمين ما وراء ذلك من عثراته وعيوبه وتفتيش ما وراء ذلك، ويجب عليهم تزكيته وإظهار عدالته فيالناس، ويكون منه التعاهد للصلوات الخمس إذا واظب عليهنّ، وحفظ مواقيتهنّ بحضور جماعة منالمسلمين، وأن لا يتخلّف عن جماعتهم في مصلاّهم إلاّ من علّة، فإذا كان كذلك لازماً لمصلاّه عندحضور الصلوات الخمس، فإذا سئل عنه في قبيلته ومحلّته قالوا: ما رأينا منه إلاّ خيراً، مواظباً علىالصلوات، متعاهداً لأوقاتها في مصلاّه، فإنّ ذلك يجيز شهادته وعدالته بين المسلمين». الحديث.
فقوله عليهالسلام : والدلالة على ذلك كلّه، إلى آخر ما نقلناه بيان اُمور تدلّ على وجود العدالة في صاحبها.م ح ـ ى.
(صفحه188)
في الإثبات ـ أيضاً من الاُمور المجعولة، كالحجّيّة، ولذا عطفها عليه بقوله: «إنّالحجّيّة والطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل وممّا تنالها يد الوضعوالرفع ابتداءً».
وكلامه رحمهالله وإن كان صحيحاً بالنسبة إلى حجّيّة الأمارات، فإنّها مجعولة ولوبجعل إمضائي، إلاّ أنّه مردود بالنسبة إلى طريقيّتها، لأنّ الطريقيّة والكاشفيّةمن أوصافها التكوينيّة التي ترتبط به تعالى بما هو خالق، لا بما هو شارع.
ومنها: قياس الأمارات بالقطع، فكما أنّ مخالفة القطع للواقع أحياناً لا تنافيحجّيّته، لعدم جعل حكم ظاهري على طبقه كي يلزم منه اجتماع حكمينمتضادّين، بل حجّيّته تكون بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة، فكذلك الأمارات.
فإنّه قياس مع الفارق، لكون حجّيّة القطع أمراً عقليّاً، ولا تنالها يد الجعلإثباتاً ونفياً، فحجّيّته لا تستلزم الترخيص من قبل الشارع في مخالفة الحكمالواقعي، بخلاف الأمارات، فإنّ حجّيّتها مجعولة شرعاً، والحجّيّة فيها وإنكانت بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ـ كالقطع ـ وليست بمعنى جعل حكم ظاهريعلى طبقها، إلاّ أنّ بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه مع ترخيص الشارع فيتركه ـ كما يقتضيه حجّيّة الأمارة المخطئة ـ أمران متنافيان كما تقدّم في جوابكلام المحقّق الخراساني رحمهالله .
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في الاُصول المحرزة(1)
- (1) لا ريب في أنّ جميع الاُصول العمليّة موردها الشكّ في الحكم الواقعي، وقسّمها المحقّق النائيني رحمهالله إلىقسمين: محرزة وغير محرزة، وأراد بالاُصول المحرزة التي عبّر عنها بـ «الاُصول التنزيليّة» أيضاً ما كانلسان دليله لزوم البناء عملاً على أحد طرفي الشكّ والمعاملة معه معاملة الواقع وإلغاء احتمال الخلافعنه، كـ «الاستصحاب» فإنّ مثل «لا تنقض اليقين بالشكّ» يكلّفنا بالبناء العملي على المتيقّن السابق فيمإذا شككنا في بقائه وارتفاعه، وكـ «قاعدة التجاوز» بناءً على كونها أصلاً عمليّاً، فإنّ ما روي ـ في وسائلالشيعة 6: 317، كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 3 ـ من قوله عليهالسلام في جواب من سألهعن الشكّ في الركوع وقد دخل في الركعة اللاحقة: «بلى قد ركعت» يدلّ على لزوم البناء على تحقّقالركوع في موارد الشكّ فيه بعد التجاوز عن محلّه، وأمّا الاُصول الغير المحرزة فأراد بها ما حكم فيه علىنفس الشكّ من دون النظر إلى أحد طرفيه وإلغاء احتمال الخلاف عنه، كأصالة البراءة والحلّيّة والطهارة.م ح ـ ى.
ج4
ثمّ قال:
وأمّا الاُصول المحرزة: فالأمر فيها أشكل، وأشكل منها الاُصولالغير المحرزة ـ كأصالة الحلّ والبراءة ـ فإنّ الاُصول بأسرها فاقدة للطريقيّة،لأخذ الشكّ في موضوعها، والشكّ ليس فيه جهة إرائة وكشف عن الواقع،حتّى يقال: إنّ المجعول فيها تتميم الكشف، فلابدّ وأن يكون في مورد الاُصولحكم مجعول شرعي، ويلزمه التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفةالأصل له.
هذا، ولكنّ الخطب في الاُصول التنزيليّة هيّن؛ لأنّ المجعول فيها هو البناءالعملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعلهكالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجهالطريقيّة، لكونها متكفّلة للجهة الثالثة(1) التي يكون القطع واجداً لها، وهوالجري على وفق القطع وترتيب آثار المقطوع عملاً، كما أنّ الأمارة تكونواجدة للجهة الثانية، وهي جهة الإحراز والكاشفيّة ـ على ما تقدّم بيانه فالمجعول في الاُصول التنزيليّة ليس أمراً مغايراً للواقع، بل الجعل الشرعي إنّمتعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أنّه هو الواقع، كما يرشد إليه قوله عليهالسلام فيبعض أخبار قاعدة التجاوز: «بلى قد ركعت» فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو،
- (1) قال المحقّق النائيني رحمهالله : يجتمع في القطع جهات ثلاث:
الجهة الاُولى: جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم...
الجهة الثانية: جهة إضافة الصورة لذي الصورة، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيّته له وإرائته للواقعالمنكشف...
الجهة الثالثة: جهة البناء والجري العملي على وفق العلم... فوائد الاُصول 3: 16. م ح ـ ى.
(صفحه190)
وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّه من دون أن يكون قد تعلّق بالمؤدّىحكم على خلاف ما هو عليه.
وبالجملة: ليس في الاُصول التنزيليّة حكم مخالف لحكم الواقع، بل إذا كانالمجعول فيها هو البناء العملي على أنّ المؤدّى هو الواقع، فلا يكون ما وراءالواقع حكم آخر حتّى يناقضه ويضادّه(1)، إنتهى كلامه في الاُصول المحرزةملخّصاً.
نقد ما أفاده رحمهالله في رفع الإشكال عن الاُصول المحرزة
ويظهر جوابه ممّا تقدّم في باب الأمارات، فإنّ إشكال التنافي والتناقضلايختصّ بما إذا جعل على وفق مؤدّى الاُصول حكم ظاهري شرعي مخالفللحكم الواقعي، فإنّك عرفت أنّ الحكم الواقعي لا يمكن أن يجتمع معترخيص الشارع في تركه، فكيف يمكن أن يكون الركوع جزءاً للصلاة مطلقحتّى في حال النسيان، ومع ذلك حكم الشارع بقوله: «بلى قد ركعت» بلزومالبناء على تحقّقه عند الشكّ فيه بعد التجاوز عن محلّه؟!
وبعبارة اُخرى: لا يمكن الجمع بين ثبوت الجزئيّة المطلقة للركوع الشاملةلحال الذكر والنسيان وبين التعبّد بالبناء على تحقّق الركوع عند الشكّ فيه،لاستلزامه الجمع بين المتنافيين إذا كانت الصلاة في الواقع فاقدة للركوع.
رأى المحقّق النائيني رحمهالله في الاُصول غير المحرزة
ثمّ قال رحمهالله :
وأمّا الاُصول الغير المحرزة: ـ كأصالة الاحتياط(2) والحلّ والبراءة ـ فقد
- (1) فوائد الاُصول 3: 110.
- (2) المراد بها أصالة الاحتياط في الشبهات البدويّة التي وقع النزاع بين الاُصوليّين والأخباريّين في أنّها هلهي مجرى البراءة أو الاحتياط، وأمّا أصالة الاحتياط الجارية في الشبهات المقرونة بالعلم الإجماليفليست محلّ الكلام في المقام. منه مدّ ظلّه.