(صفحه272)
إن قلت: لسان هذه الآيات آبٍ عن التخصيص.
قلت: إبائها عن التخصيص يستلزم بطلان الاستدلال بها رأساً.
توضيح ذلك: أنّه لا ريب في أنّ هذه الآيات ليست نصّاً في حرمة العملبالظنّ، فإنّ غاية ما يدلّ عليه النهي في قوله: «لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»هوالظهور في حرمة اتّباع غير العلم، وغاية ما يدلّ عليه تعليق الحكم على طبيعةالظنّ في قوله: «إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً» هو الظهور في العموم.
وبالجملة: لا يتمّ الاستدلال بهذه الآيات إلاّ بالتمسّك بظهورين:
أ ـ ظهور النهي في الحرمة.
ب ـ ظهور ما تعلّق به النهي، وهو «ماليس لك به علم» في الآية الاُولى،و«الظنّ» في الآية الثانية، في العموم.
والظاهر لا يفيد إلاّ الظنّ، فالتمسّك بظاهر هذه الآيات لإثبات حرمة العملبالظنّ يقتضي عدم حجّيّة الظنّ الحاصل من ظاهرها أيضاً.
فلا محيص عن تخصيصها بأدلّة حجّيّة الظواهر والخبر الواحد وسائرالظنون الخاصّة.
هذا جواب متين عن الاستدلال بالآيات اختاره بعض الأكابر في المقام(1).
مزيد تحقيق في المسألة
لكن هاهنا جواب أدقّ وأمتن، وهو أنّ تقدّم أدلّة حجّيّة الخبرالواحد على الآيات الناهية عن العمل بالظنّ على التحقيق يكونبنحو الورود، وإن اختلفوا في وجهه بين التخصيص والتخصّص والحكومة
- (1) فرائد الاُصول 1: 246، وكفاية الاُصول: 339.
ج4
والورود.
توضيح هذه العناوين
فلابدّ من تفسير هذه العناوين الأربعة إجمالاً لتتّضح الحال في المسألة،فنقول:
أمّا التخصيص: فهو إخراج بعض أفراد العامّ عن حكمه معالاعتراف بشمول عنوانه له، كما إذا قال في دليل: «أكرم كلّ عالم»وفي دليل آخر: «لايجب إكرام زيد العالم» فالمخصّص يبيّن أنّ الإرادةالجدّيّة من العامّ تعلّقت بغير مورد المخصّص وإن كانت الإرادة الاستعماليّةشاملةً له أيضاً.
وأمّا التخصّص: فهو خروج شيء بنفسه عن تحت عنوان الدليل، كخروج«زيد الجاهل» عن تحت قول المولى: «أكرم العلماء» سواء ورد دليل آخر دالّعلى عدم وجوب إكرامه أو لم يرد.
فالتخصيص والتخصّص يشتركان في عدم إعمال التعبّد في الموضوع توسعةًوتضييقاً من قبل المولى، بل الموضوع أمر واقعي باقٍ بعد ورود الأدلّة على مكان عليه قبل ورودها.
بخلاف الورود والحكومة، فإنّهما يوجبان التضييق أو التوسعة في دليلبمعونة التعبّد بدليل آخر بحيث لو لم يكن الدليل الثاني لما حصل التضييق أوالتوسعة في الدليل الأوّل.
الفرق بين الورود والحكومة
أمّا الورود: فهو عبارة عن رفع دليل موضوع دليل آخر، كالخبر الواحدالمثبت للحكم بالنسبة إلى «حديث الرفع» فإنّ قوله صلىاللهعليهوآله : «رفع ما لا يعلمون»
(صفحه274)
يدلّ على رفع الحكم الذي لا دليل على ثبوته، فإذا دلّ خبر زرارة مثلاً علىوجوب صلاة الجمعة، ارتفع موضوع «حديث الرفع» ولم تجر أصالة البراءةبالنسبة إلى وجوب صلاة الجمعة، فيتقدّم الخبر الواحد المثبت للحكم على«حديث الرفع» بنحو الورود.
وأمّا الحكومة: فهي عبارة عن تبيين الدليل المحكوم وتفسيره بسببالدليل الحاكم، فالدليل الحاكم لا يرفع موضوع الدليل المحكوم، بليكون ناظراً مفسّراً له ومبيّناً لحدود الموضوع وثغوره، بحيث لولاه لمفهمنا ذلك الشرح والتفسير من نفس الدليل المحكوم، كالدليل الواردبلسان نفي الشكّ عن كثير الشكّ بالنسبة إلى أدلّة الشكوك في الصلاة،فإنّ قوله: «لا شكّ لكثير الشكّ»(1) ليس بمعنى عدم كونه شاكّاً تكويناً، لأنّهيستلزم التناقض بين صدره وذيله كما لا يخفى، بل هو ناظر إلى الأحاديثالمرويّة في أحكام الشكّ في الصلاة(2)، ويبيّن أنّ المراد من تلك الأحاديث غيركثير الشكّ.
وبهذا اتّضح أنّ تقدّم الدليل الحاكم على الدليل المحكوم إنّما هولأجل الشارحيّة والمشروحيّة، ضرورة أنّ الشارح مقدّم على المشروح،ولأجل ذلك لا يمكن التمسّك بإطلاق أدلّة الشكوك في مقابل دليل نفي الشكّعن كثير الشكّ.
الفرق بين الحكومة والتخصيص
أساس الفرق بين الحكومة والتخصيص أنّ مورد «الدليل الحاكم» وإن كان
- (1) ليس لنا دليل بهذا اللفظ ظاهراً، لكن ورد مضمونه في أحاديث متعدّدة، فراجع وسائل الشيعة8 : 227 ـ 229، كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. م ح ـ ى.
- (2) هذه الأحاديث مرويّة في وسائل الشيعة 8 : 187 ـ 252، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
ج4
داخلاً في «الدليل المحكوم» حقيقةً، إلاّ أنّ «الدليل الحاكم» بعنوان أنّه شارحومفسّر لـ «الدليل المحكوم» يبيّن بحسب التعبّد الشرعي أنّه لم يكن داخلاً(1)فيه حتّى بلحاظ المراد الاستعمالي.
وهذا بخلاف التخصيص، فإنّ لسانه لسان الإخراج لا لسان النظارةوالتفسير، فـ «الخاصّ» يخرج مورده عن تحت «العامّ» الذي يشمله بحسبالمراد الاستعمالي ويحكم بأنّه لم يتعلّق به الإرادة الجدّيّة كما تقدّم.
فقوله: «لا شكّ لكثير الشكّ» يدلّ على أنّ «كثير الشكّ» لم يكن داخلاً فيأدلّة الشكوك من أوّل الأمر، لكنّ قوله: «لا تكرم زيداً العالم» يدلّ على أنّ«زيداً» كان داخلاً في قوله: «أكرم كلّ عالم» بلحاظ المراد الاستعمالي، لكنّه لميكن مراداً جدّاً.
ورود أدلّة حجّيّة الخبر على الآيات الناهية عن اتّباع الظنّ
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ما دلّ على اعتبار الخبر الواحد وارد على الآياتالناهية عن اتّباع غير العلم، لأنّ العلم في نظائر محلّ النزاع من كتاب اللّه ليسعبارة عن القطع واليقين، بل عبارة عن الدليل المعتبر، فانظر إلى قوله تعالى:«قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ»(2) فإنّ القطعواليقين القلبي لا يصلح للإخراج والإراءة، بل القابل لذلك إنّما هو المدركوالسند المعتبر، فالظنّ المقابل للعلم في الآية أيضاً كان بمعنى ما ليس لهسند ودليل.
- (1) هذا فيما إذا كانت الحكومة بلسان التضييق، وأمّا إذا كانت بلسان التوسعة ـ كما إذا قال في دليل: «أكرم كلّعالم» وفي دليل آخر: «زيد عالم» ـ كان الدليل الثاني حاكماً بدخول مورده في الدليل الأوّل تعبّداً، وإن كانخارجاً عنه حقيقةً. م ح ـ ى.
(صفحه276)
فإذا كان قوله تعالى: «لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» نهياً عن اتّباع ما ليسله حجّة معتبرة كانت أدلّة اعتبار الخبر الواحد واردةً عليه، لكون الخبرالواحد حينئذٍ سنداً ودليلاً معتبراً.
وإن أصررت على كون العلم في هذه الآيات بمعنى القطع فالخبرالواحد وإن كان ظنّيّاً بلحاظ مدلوله، إلاّ أنّه قطعي بلحاظ دليلاعتباره، والعمل بالظنّ الذي دلّ على اعتباره برهان قطعي لا يكاديصدق عليه اتّباع غير العلم لكي يندرج تحت قوله: «لا تَقْفُ ما لَيْسَلَكَ بِهِ عِلْمٌ»وإن كان العلم بمعنى القطع واليقين، لأنّا لانتمسّك بخبرزرارة مثلاً بلحاظ بعد مدلوله الظنّي، بل بلحاظ بعد دليل حجّيّته الذي يكونقطعيّاً.
والحاصل: أنّ التمسّك بالخبر الواحد خارج عن تحت قوله تعالى: «لا تَقْفُما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» وحيث إنّ خروجه يكون بإعمال التعبّد من قبل الشارعكان من مصاديق الورود لا من مصاديق التخصّص الذي يكون الخروج فيهخروجاً تكوينيّاً.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وفصّل المحقّق النائيني رحمهالله بين السيرة العقلائيّة وسائر ما دلّ على حجّيّةالخبر الواحد، فقال بالورود بل التخصّص في السيرة وبالحكومة في الباقي،فإليك نصّ كلامه رحمهالله :
نسبة تلك الأدلّة(1) إلى الآيات(2) ليست نسبة التخصيص، بل نسبة
- (1) أي: الأدلّة الدالّة على جواز العمل بالخبر الواحد. م ح ـ ى.
- (2) أي: الآيات الناهية عن العمل بالظنّ. م ح ـ ى.