(صفحه378)
على نفس الأحكام».
فإنّ العناوين الثلاثة الاُولى وإن كانت تختصّ بالموضوعات، إلاّ أنّ النسيانيعمّها والأحكام، ألا ترى أنّك تارةً تنسى حرمة الخمر مثلاً، واُخرىخمريّتها؟
البحث حول دلالة «حديث الرفع» على البرائة
إذا عرفت هذه الاُمور فاعلم أنّ الاستدلال بالحديث في المقام يتوقّف علىشمول فقرة «ما لا يعلمون» للشبهات الحكميّة والموضوعيّة وعدم اختصاصهبالثانية؛ لأنّ عمدة البحث في باب البرائة ترتبط بالشبهات الحكميّة، لكونهناشئة عن اُمور ثلاثة: عدم النصّ، إجمال النصّ، تعارض النصّين أو النصوص،بخلاف الشبهات الموضوعيّة، حيث إنّها لا تنشأ إلاّ عن الاشتباه في الاُمورالخارجيّة، ولا يتعدّد منشأها.
على أنّ الشبهات الحكميّة هي عمدة ما صار معركة الآراء بين الأخباريّينوالاُصوليّين، حيث إنّ الأخباري قال بوجوب الاحتياط، والاُصولي بجريانالبرائة فيها.
فالاستدلال بحديث الرفع في المقام يبتني على كون الموصول في «ما ليعلمون» عامّا للشبهات الحكميّة والموضوعيّة.
واستشكل على ذلك بطرق عديدة:
1ـ أنّ بعض فقرات الحديث ـ مثل «ما اُكرهوا عليه» و«ما اضطرّوا إليه»و«ما لا يطيقون» ـ تختصّ بالموضوعات، ووحدة السياق تقتضي أن يكون«ما لا يعلمون» أيضا كذلك، فالمراد به هو الفعل الذي اشتبه عنوانه، كالشربالذي لم يعلم كونه شرب الخمر أو شرب الخلّ.
ج4
لكن اُجيب عن ذلك بوجوه:
جواب المحقّق العراقي رحمهالله عن الإشكال بوحدة السياق
أ و ب ـ ما أفاده المحقّق العراقي رحمهالله بقوله:
ولكن لا يخفى ما فيه، لمنع وحدة السياق، كيف وإنّ من الفقرات في الحديث«الطيرة» و«الحسد» و«الوسوسة» ولا يكون المراد منها الفعل، ومع هذالاختلاف كيف يمكن دعوى ظهور السياق في إرادة الموضوع المشتبه.
مع أنّ ذلك يقتضي ارتكاب خلاف ظاهر السياق من جهة اُخرى، فإنّالظاهر من الموصول في «ما لا يعلمون» هو ما كان بنفسه معروض الوصفوهو عدم العلم كما في غيره من العناوين الاُخر، كالاضطرار والإكراهونحوهما، حيث كان الموصول فيها معروضا للأوصاف المزبورة، فتخصيصالموصول بالشبهات الموضوعيّة ينافي هذا الظهور، إذ لا يكون الفعل فيهبنفسه معروضا للجهل، وإنّما المعروض له هو عنوانه، وحينئذٍ يدور الأمر بينحفظ السياق من هذه الجهة بحمل الموصول في «مالايعلم» على الحكم المشتبهوبين حفظه من جهة اُخرى بحمله على إرادة الفعل، ولا ريب في أنّ العرفيرجّح الأوّل، فيتعيّن الحمل في «مالايعلمون» على إرادة الحكم(1)، إنتهىكلامه رحمهالله .
نقد كلام المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
ونوقش في الوجه الأوّل منهما بأنّ «الطيرة» و«الحسد» و«الوسوسة»أيضا من الأفعال، لكنّها من الأفعال النفسانيّة، و«ما اُكرهوا عليه»
- (1) نهاية الأفكار 3: 216.
(صفحه380)
وأمثاله من الأفعال الجوارحيّة، وما يقتضيه وحدة السياق إنّمهو تعلّق «الرفع» بـ «العمل» سواء كان من أعمال النفس أو من أعمالالجوارح.
وأمّا الوجه الثاني فأورد عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله بما حاصله:
إنّ المعروض للجهل في الشبهات الموضوعيّة هو الفعل بنفسه، لأنّ المايعالمردّد بين الخمر والخلّ كان نوعه مجهولاً، ويصدق على الشيء المشكوك نوعهأنّه بنفسه مشكوك حقيقة، ألاترى أنّك إذا رأيت حيوانا من بعيد مردّدا بينكونه غنما وبين كونه ذئبا كان نفس ذلك الحيوان مجهولاً لك، بحيث يصحّ لكأن تقول: «هذا الحيوان الذي يجيئنا غير معلوم» فشرب المايع الخارجيالمعيّن المردّد بين كونه خمرا وخلاًّ أيضا مجهول، إذ لا يعلم أنّه شرب الخمرأو شرب الخلّ(1).
الحقّ في الجواب عن الإشكال بوحدة السياق
والجواب الصحيح عن مسألة وحدة السياق ما أفاده المحقّق الحائري رحمهالله ـ بعد بيان ما ذكر من الشبهات في المقام ـ بقوله:
ولكنّ الإنصاف عدم ورود شيء ممّا ذكر:
أمّا قضيّة السياق فلأنّ عدم تحقّق الاضطرار في الأحكام، وكذا الإكراهلايوجب التخصيص في قوله عليهالسلام : «ما لا يعلمون» ولا يقتضي السياق ذلك،فإنّ عموم الموصول إنّما يكون بملاحظة سعة متعلّقه وضيقه، فقوله صلىاللهعليهوآله : «ماضطرّوا إليه» اُريد منه كلّ ما اضطرّ إليه في الخارج، غاية الأمر لم يتحقّقالاضطرار بالنسبة إلى الحكم، فيقتضي اتّحاد السياق أن يراد من قوله صلىاللهعليهوآله :
ج4
«ما لا يعلمون» أيضا كلّ فردٍ من أفراد هذا العنوان، ألا ترى أنّه إذا قيل:«ما يؤكل وما يرى» في قضيّة واحدة لا يوجب انحصار أفراد الأوّل فيالخارج ببعض الأشياء تخصيص الثاني أيضا بذلك البعض، وهذا واضحجدّا(1)، إنتهى كلامه رحمهالله .
وهو جيّدٌ متين.
والحاصل: أنّه لا يمكن إخراج الشبهات الحكميّة عن تحت «حديث الرفع»من طريق وحدة السياق.
2ـ أنّه لاريب في دخول الشبهات الموضوعيّة تحت قوله صلىاللهعليهوآله : «ما ليعلمون» فلو كانت الشبهات الحكميّة أيضا داخلةً فيه للزم استعمال اللفظ فيأكثر من معنى واحد، وهو إمّا ممتنع أو غير جائز.
وبما تقدّم من كلام المحقّق الحائري رحمهالله يمكن الجواب عن هذا الإشكالأيضا، لأنّ شمول الموصول للفعل والحكم المجهولين كليهما لا يستلزم استعمالهفي أكثر من معنى، لأنّ الموصول من المبهمات، وسعة دائرته وضيقها تابعةلمقدار دلالة صلته، فقوله صلىاللهعليهوآله : «ما لا يعلمون» عبارة عمّا نعبّر عنه بالفارسيّةبـ «آنچه كه نمىدانند» ولا ريب في أنّ هذا المعنى يعمّ الفعل والحكم المجهولينمن دون أن يكون اللفظ مستعملاً في خصوص هذين المعنيين.
3ـ أنّ كلمة «الرفع» تشعر بأنّ المرفوع شيء ثقيل رفعه الشارع عن الاُمّةامتنانا وتفضّلاً، والحكم ليس بثقيل، فإنّه لا يرتبط بالمكلّف، بل هو عملالمولى، بخلاف ما هو فعل المكلّف، فإنّه ثقيل، فكلمة «رفع» لا تتناسب إلاّ معالشبهات الموضوعيّة.
لكنّه في غاية الضعف والبطلان، فإنّ الشبهات الموضوعيّة ـ التي وقع
(صفحه382)
الاتّفاق على دخولها في الحديث ـ على قسمين: وجوبيّة ترتبط بوجود الفعل،وتحريميّة ترتبط بعدمه، فالذي ادّعي أنّه ثقيل هل هو وجود الفعل أو عدمه أوكلاهما؟!
على أنّا نمنع أن يكون الفعل ثقيلاً إلاّ باعتبار تعلّق التكليف به، فإنّالواجب لو لم يكن واجبا لما كان ثقيلاً، وهذا هو وجه تسمية التكليف تكليفا،فإنّ فيه كلفة ومشقّة، فالتعبير بـ «الرفع» في الحديث وإن كان يشعر بكونالمرفوع أمراثقيلاً، إلاّأنّهيستدعي دخولالشبهاتالحكميّة فيه لاخروجها عنه.
4ـ أنّ شمول «حديث الرفع» للشبهات الحكميّة يستلزم أن يكون إسناد«الرفع» إلى العناوين المذكورة سيّما فقرة «ما لا يعلمون» حقيقيّا ومجازيّا.
توضيح ذلك: أنّ «الرفع» بالنسبة إلى الموضوعات لا يمكن أن يكونحقيقيّا، ضرورة أنّ شرب الخمر مثلاً لا يكاد يكون مرفوعا حتّى فيما إذا ليعلم، فإسناد الرفع إليه مجازي بلحاظ رفع آثاره كما تقدّم.
بخلاف ما إذا اُسند إلى الأحكام، فإنّ وضع الحكم ورفعه بيد الشارع، فإذكان مجهولاً كان مرفوعا حقيقةً لو شمله حديث الرفع.
ولا يخفى عليك أنّ هذا الإشكال مبنيّ على كون الموصول مستعملاً في كلّمن الفعل والحكم، مع أنّك عرفت أنّه من المبهمات بمعنى «شيء» واستعمل فيجميع فقرات الحديث في هذا المعنى المبهم.
نعم، موارد استعماله تختلف سعة وضيقا بحسب مقدار دلالة صلته، فهوينطبق في «ما لا يعلمون» على الفعل والحكم كليهما، ولا ينطبق في «ما اُكرهوعليه» إلاّ على الفعل فقط، لكنّ الانطباق غير الاستعمال، فإنّه استعمل في جميعهذه الموارد في ذلك المعنى المبهم الذي وضع له، وإسناد الرفع إليه في جميعهمجازي؛ لأنّا نرى وجود الأشياء غير المعلومة والمكره عليها، فلا يمكن الحكم