ج4
وبالجملة: الرخصة والحلّيّة المستفادة من «حديث الرفع» و«أصالة الحلّ»تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة من «إيجاب الاحتياط»، وقد عرفتأنّ إيجاب الاحتياط يكون في طول الواقع ومتفرّعاً عليه، فما يكون في عرضهيكون في طول الواقع أيضاً، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيء فيعرضه(1)، إنتهى كلامه.
نقد كلامه رحمهالله في الاُصول غير المحرزة
وفي مواضع من كلامه نظر:
منها: أنّه فرّق بين اعتباري الشكّ في الحكم الواقعي بأنّه لو اعتبر بعنوانأنّه من حالاته وطوارئه اللاحقة له أو لموضوعه ـ كالعلم والظنّ ـ لامتنع أنيجعل موضوعاً لحكم يضادّ الحكم الواقعي، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده،وإن اعتبر بما أنّه موجب للحيرة في الواقع غير موصل إليه فلا يمتنع أن يؤخذموضوعاً لما يكون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع وموصلاً إليه ـ كأصالةالاحتياط ـ كما أنّه لا يمتنع أن يؤخذ موضوعاً لما يكون مؤمّناً عن الواقعـ كأصالة البراءة والحلّيّة ـ وذلك لتأخّر الحكم الظاهري عن الواقعي رتبةً،لأنّ موضوعه هو الشكّ في الحكم من حيث كونه موجباً للحيرة في الواقع،والشكّ في الحكم بهذا الاعتبار متأخّر عن نفس ذلك الحكم.
وهذا كلام عجيب، فإنّ الشكّ في الحكم بالاعتبار الأوّل أيضاً متأخّر عنه،ولولا ذلك لما صحّ تعبيره رحمهالله عنه بالحالات والعوارض اللاحقة له، ضرورة أنّالعرض يكون متأخّراً عن معروضه ولو رتبةً.
والحاصل: أنّا لم نفهم الفرق بين اعتباري الشكّ في الحكم الواقعي بكونه
- (1) فوائد الاُصول 3: 112.
(صفحه196)
بأحد الاعتبارين متأخّراً عنه دون الآخر، فلا يصحّ القول بإمكان جعلهبأحد الاعتبارين موضوعاً للحكم الظاهري دون الاعتبار الآخر.
ومنها: أنّه قال في ذيل كلامه: إنّ الرخصة والحلّيّة المستفادة منحديث الرفع وأصالة الحلّ تكون في عرض المنع والحرمة المستفادة منإيجاب الاحتياط(1)، ولمّا كان إيجاب الاحتياط في طول الواقع فما يكونفي عرضه يكون في طول الواقع أيضاً، وإلاّ يلزم أن يكون ما في طول الشيءفي عرضه.
وهو منظورٌ فيه، إذ ثبت في العلوم العقليّة أنّ التقدّم والتأخّر الرتبيّينتابعان لوجود الملاك في المتقدّم والمتأخّر، فإنّ صرف كون الشيء في عرضالمتأخّر رتبة عن الشيء لا يستلزم تأخّره عنه أيضاً، فإنّ المعلول متأخّر رتبةًعن علّته، لمكان العلّيّة والمعلوليّة، وأمّا ما هو في رتبة المعلول من المقارناتالخارجيّة فليس محكوماً بالتأخّر الرتبي عن تلك العلّة كما هو واضح في محلّهوعند أهله.
فكون الحكم بوجوب الاحتياط متأخّراً عن الحكم الواقعي ـ بملاك كونهناشئاً عن أهمّيّة المصلحة الواقعيّة ـ لا يقتضي أن تكون الرخصة والحلّيّةالمستفادة من «حديث الرفع» و«أصالة الحلّ» أيضاً متأخّرة عنه، لعدم تحقّقملاك التأخّر فيها، وإن كانت في عرض إيجاب الاحتياط.
ومنها: أنّ ما أفاده في أصل مسألة الاحتياط ـ من أنّه لا مضادّة بين إيجابالاحتياط وبين الحكم الواقعي، بل الاحتياط شرّع لأجل التحفّظ علىمصلحة الواقع ـ كلام دقيق متين، لكن ما ذكره عقيبه ـ من أنّ المشتبه إن كان
- (1) والشاهد على كونهما في عرض واحد أنّ الشارع كان متمكّناً من إيجاب الاحتياط مكان الحكمبالرخصة والحلّيّة، ولو حكم بالاحتياط لكان متأخّراً عن الحكم الواقعي لا محالة. منه مدّ ظلّه في توضيحكلام المحقّق النائيني رحمهالله .
ج4
ممّا يجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتياط يتّحد مع الوجوب الواقعيويكون هو هو، وإن لم يكن المشتبه ممّا يجب حفظ نفسه فلا يجب الاحتياط،لانتفاء علّته، وإنّما المكلّف يتخيّل وجوبه، لعدم علمه بحال المشتبه ـ كلامفاسد، فإنّ وجوب الاحتياط موضوعه هو الشكّ في كون المشرف على الغرقمثلاً مؤمناً محقون الدم أو كافراً مهدور الدم، فكلّما تحقّقت هذه الشبهة وجبالاحتياط، ولا منافاة بينه وبين الحكم الواقعي لنضطرّ إلى رفعها بالقولباتّحادهما فيما إذا كان في الواقع مؤمناً وبعدم وجوب الاحتياط وكونه أمرتخيّليّاً وهميّاً إن كان كافراً، لاختلافهما بحسب الموضوع، فإنّ موضوع الحكمالواقعي هو حفظ النفس المحترمة، وموضوع وجوب الاحتياط هو «المشتبه»،فكلّما تحقّق عنوان «المشتبه» وجب الاحتياط، سواء كان في الواقع مؤمناً أوكافراً.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في مثل قاعدة الحلّيّة والطهارة
ثمّ إنّ هذا المحقّق الكبير ـ مع إطالة الكلام وإتعاب نفسه الزكيّة في استخدامألفاظ واصطلاحات عديدة ـ عجز عن حلّ غائلة التضادّ في مثل قاعدةالطهارة والحلّيّة، ضرورة أنّ شرب التتن مثلاً لو كان حراماً في الواقع ولكنّشككنا في حلّيّته وحرمته فأجرينا فيه أصالة الحلّيّة المستفادة من قوله عليهالسلام :«كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه»(1) لكان من مصاديقاجتماع المتنافيين، ولا يمكن رفعه بالبيان المتقدِّم في كلام المحقّق النائيني رحمهالله كما ليخفى، وهكذا الأمر في قاعدة الطهارة.
الحقّ في المسألة
- (1) وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.
(صفحه198)
إذا تبيّن لك فساد ما ذكره الأعلام في المقام فاتّضح لك أنّ مقتضى التحقيقما تقدّم، من أنّ المسألة نظير باب التزاحم، فإنّ للمولى أحكاماً واقعيّة فعليّةكثيرة، وإذا كانت تلك الأحكام مجهولة للمكلّف فلابدّ للشارع إمّا من إيجابالاحتياط الذي يحكم به العقل أيضاً في جميع الموارد، أو من التعبّد بالأماراتالعقلائيّة والاُصول العمليّة، وحيث إنّ العمل بالاحتياط يستلزم العسروالحرج وتنفّر كثير من الناس من أصل الإسلام، التجأ الشارع إلى الأماراتوالاُصول العمليّة التي منها أصالة الطهارة والحلّيّة، تسهيلاً للعباد، والأحكامالواقعيّة وإن كانت باقية على فعليّتها إلاّ أنّ الشارع رفع اليد عنها فيما إذا كانتمخالفة لمقتضى الأمارات والاُصول، كما رفع اليد عمّا زاد على قدرة المكلّف فيباب المتزاحمين، وإن كان رفع اليد في باب التزاحم ناشئاً عن عدم قدرةالمكلّف على امتثال الجميع، وفي المقام عن مصلحة أقوى، وهي كون الإسلامشريعة سمحة سهلة يرغب الناس فيها وتبقى خالدة إلى يوم القيامة.
وحاصل ما تقدّم من المباحث أمران:
أ ـ أنّ جميع الأدلّة التي تمسّك بها ابن قبة وأتباعه كانت مخدوشة، ولم يثبتبها استحالة التعبّد بالمظنّة.
ب ـ أنّ الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي أمر ممكن ناشٍ عن مصلحةمهمّة.
هذا تمام الكلام في البحث عن إمكان التعبّد بالأمارات غير العلميّةواستحالته.
ج4