ج4
بخمريّة أحد المايعين، ثمّ قامت البيّنة على خمريّة ما في اليمين بالخصوص، أوالحكميّة، كما إذا علمنا إجمالاً بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة، ثمّ قامت أمارةمعتبرة أو أصل عملي كذلك على وجوب خصوص الجمعة، وجميعها محلّالكلام في المقام، لكن ما أفاده الإمام رحمهالله من ملاك الانحلال إنّما يجري فيالصورتين الاُوليين، لزوال العلم الإجمالي فيهما وجدانا، وأمّا الصورة الثالثةفلا، لأنّ حجّيّة الأمارة ـ كالبيّنة والخبر الواحد ـ لا تتوقّف على حصول الظنّبمضمونه فضلاً عن العلم به، فلا تقتضي زوال العلم الإجمالي عن صفحة نفسالإنسان لكي ينحلّ حقيقةً.
فلا مجال لإجراء البرائة بالنسبة إلى غير ما قام عليه الأصل أو الأمارة، بللابدّ من الاجتناب عن المايع الواقع في اليمين بملاك قيام البيّنة على خمريّته،وعمّا وقع في اليسار بملاك العلم الإجمالي، ولابدّ من الإتيان بصلاة الجمعةبملاك قيام الأمارة أو الأصل على وجوبه، وبصلاة الظهر بملاك العلم الإجمالي.
إن قلت: إنّ الأصل النافي وإن لم يجر فيما قامت الحجّة عليه من طرفي العلمالإجمالي، إلاّ أنّه لا منع من جريانه في الطرف الآخر.
قلت: جريان الأصل النافي وعدم جريانه في بعض أطراف العلم الإجمالييدور مدار انحلاله وعدمه، فلو انحلّ بحيث كان غير المعلوم بالتفصيلمشكوكا فقط من دون أن يكون طرفا للعلم الإجمالي لجرى فيه أصالة البرائةوسائر الاُصول النافية، وأمّا إذا لم ينحلّ، بل كان غير المعلوم بالتفصيل ـ معكونه مشكوكا ـ طرفا للعلم الإجمالي فلاوجه لجريان الاُصول النافية فيه.
والحاصل: أنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ في موارد قيام الحجّة غير العلميّةعلى أحد أطرافه، لاحقيقةً ولا حكما، أمّا عدم الانحلال الحقيقي فلشهادةالوجدان بعدم زواله عن صفحة النفس، وأمّا عدم الانحلال الحكمي فلم
(صفحه466)
عرفت من جواب أدلّة القائلين به وأنّه لا يصحّ القول بعدم تأثير العلمالإجمالي مع بقائه حقيقةً.
الرجوع إلى أصل البحث
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى جواب ما استدلّ به الأخباريّون لإثباتوجوب الاحتياط في الشبهات البدويّة الحكميّة التحريميّة، من أنّا نعلم إجمالبوجود تكاليف لزوميّة كثيرة في الشريعة الإسلاميّة، فلابدّ من الاجتناب عنكلّ ما احتمل حرمته، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي الفراغ اليقيني.
وقد عرفت النقض فيه بالشبهات الوجوبيّة والموضوعيّة من التحريميّة.
وأمّا الحلّ فهو أنّ هذا العلم الإجمالي ينحلّ إلى علم إجمالي صغير وشكّبدوي بالملاك الذي ذكره الإمام رحمهالله للانحلال الحقيقي.
توضيح ذلك: أنّا نعلم ـ بالعلم الوجداني ـ بوجود تكاليف واقعيّة في مؤدّىالطرق والأمارات والاُصول المعتبرة بالمقدار المعلوم بالإجمال(1)، ومعه ينحلّالعلم الإجمالي الكبير في دائرة العلم الإجمالي الصغير المحدود أطرافه في مؤدّاهويصير ما بقي منها مشكوكا بشكّ بدوي.
واحتمال كون التكاليف الواقعيّة أكثر من المقدار المعلوم بالإجمال، أو كونبعض ما علم في دائرة الأمارات والاُصول مغايرا للمعلوم بالعلم الإجماليالكبير لا ينافي الانحلال، لتحقّق ملاك الانحلال المتقدّم في كلام الإمام رحمهالله ـ وهوزوال العلم عن صفحة النفس ـ حتّى مع هذين الاحتمالين.
فعلى هذا لابدّ من العمل بالطرق والأمارات والاُصول المعتبرة، وأمّالشبهات البدويّة التي لم تقم حجّة شرعيّة معتبرة عليها فلاوجه لوجوب
- (1) وإن لانعلم ما هو المطابق للواقع مشخّصا. منه مدّ ظلّه.
ج4
الاحتياط فيها، بل هي مجرى أصالة البرائة وسائر الاُصول النافية للتكليف،لخروجها عن دائرة العلم الإجمالي بعد تحقق العلم الإجمالي الصغير.
هذا تمام الكلام في أدلّة الأخباريّين لإثبات وجوب الاحتياط في الشبهاتالبدويّة الحكميّة التحريميّة، وقد عرفت المناقشة في جميعها وأنّ الحقّ في ناحيةالقائلين بالبرائة.
(صفحه468)
ج4
في جريان أصالة البرائة في الشبهات الموضوعيّة
تنبيهات البرائة
وينبغي التنبيه على اُمور:
الأوّل: في جريان أصالة البرائة في الشبهات الموضوعيّة
اتّفقوا على جريانها في الشبهات الوجوبيّة من الحكميّة، ووقع الخلاف بينالاُصوليّين والأخباريّين في التحريميّة منها كما تقدّم.
وأمّا الشبهات الموضوعيّة فلابدّ من ملاحظة أقسام تعلّق التكليفـ وجوبيّا وتحريميّا ـ بالطبيعة كي يتّضح الحقّ في المسألة.
فنقول: كيفيّة تعلّق الحكم بالطبيعة على أقسام:
أ ـ أن يكون بنحو العموم الاستغراقي، فيتعدّد الحكم بتعدد أفراد الطبيعة،ولكلّ واحد منها إطاعة ومعصية مستقلّة.
كما إذا قال ـ في الحكم الوجوبي ـ : «أكرم كلّ عالم» و ـ في الحكمالتحريمي ـ : «لا تشرب الخمر»(1).
ب ـ أن يكون بنحو العموم المجموعي الذي لا يتعدّد فيه الحكم، بل لهإطاعة واحدة لا تتحقّق إلاّ بالموافقة بالنسبة إلى جميع الأفراد، فلولم يوافق في
- (1) اعلم أنّ المراد بالعموم الاستغراقي في المقام أعمّ من العموم الاصطلاحي والإطلاق، فيعمّ مثل «لتشرب الخمر» الذي لكلّ واحد من أفراد الخمر إطاعة ومعصية مستقلّة. منه مدّ ظلّه.