ج4
تناقض السالبة الجزئيّة، والسالبة الكلّيّة تناقض الموجبة الجزئيّة عندهم، وأمّالعرف فلا يرى بينهما مناقضة، بل يحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد.
فغاية ما يستفاد من الأخبار المذكورة هو عدم جواز العمل بخبر يخالفالكتاب بحيث لا يمكن بينهما الجمع العرفي، وهذا ما لا ينكره أحد من القائلينبحجّيّة الخبر الواحد.
وبهذا يندفع ما ربما يقال، من أنّ القول بحجّيّة الخبر الواحد يستلزم الأخذبكلّ واحد من هذه الأخبار التي اُقيمت على عدم حجّيّة الخبر الواحد، وليتوقّف التمسّك بها على إثبات التواتر والأخذ بالقدر المتيقّن منها.
وجه الاندفاع أنّ كلّ واحد من هذه الروايات وإن كانت حجّة عندنا، إلأنّها ـ كما عرفت ـ تختلف سعةً وضيقاً، فلابدّ من الجمع بينها بتخصيص العامّبالخاصّ وحمل المطلق على المقيّد، ويلزمه أيضاً الأخذ بالقدر المتيقّن منهوالقول بعدم حجّيّة خصوص الخبر المخالف للكتاب.
والحاصل: أنّ نتيجة الأخبار المانعة هي عدم جواز الأخذ بالخبر المخالفللكتاب، ومن قال بحجّيّة الخبر الواحد لا يقول بها بنحو الموجبة الكلّيّة،بل بنحو الموجبة الجزئيّة التي لا تنافي عدم حجّيّته فيما إذا خالف كتاب اللّهعزّ وجلّ.
استدلال المانعين بالإجماع ونقده
وأمّا الإجماع: فقد ادّعاه السيّد المرتضى رحمهالله في مواضع من كلامه، وجعله فيبعضها بمنزلة القياس في كون ترك العمل به معروفاً من مذهب الشيعة.
وفيه: أنّه لم يتحقّق لنا هذا الإجماع، والاعتماد على نقله تعويل على خبرالواحد، مع معارضته بدعوى الشيخ الطوسي رحمهالله الإجماع على حجّيّة الخبر
(صفحه282)
الواحد في الجملة(1).
استدلال المانعين بدليل العقل وجوابه
وأمّا العقل: فما تقدّم عن ابن قبة ومن تبعه من الدليلين المتقدِّمين في مبحثإمكان التعبّد بالمظنّة، وقد عرفت المناقشة فيهما. فراجع(2).
والحاصل: أنّ جميع ما استدلّ به المنكرون مخدوش، لكنّك قد عرفت أنّهملا يحتاجون إلى إقامة البرهان لإثبات عدم الاعتبار، بل يكفيهم أنّ الأصلحرمة العمل بالمظنّة، فالمهمّ ملاحظة ما تمسّك به المثبتون.
براهين القائلين بحجّيّة الخبر الواحد
وهي الأدلّة الأربعة:في براهين القائلين بحجّيّة الخبر الواحد
أمّا الكتاب: فقد استدلّ بآيات منه:
آية «النبأ»
منها: قوله تعالى في سورة الحجرات: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
ج4
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ»(1).
قال الطبرسي: قوله: «إن جاءكم فاسق» نزل في الوليد بن عقبة بن أبيمعيط، بعثه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً بهوكانت بينهم عداوة في الجاهليّة، فظنّ أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلىرسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقال: إنّهم منعوا صدقتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبيّ صلىاللهعليهوآله وهمَّ أن يغزوهم، فنزلت الآية(2)، إنتهى.
استدلّ بهذه الآية من طريق مفهوم الوصف تارةً ومن طريق مفهومالشرط اُخرى.
البحث حول مفهوم الوصف من آية «النبأ»
أمّا الأوّل: فتقريبه أنّ الحكم في الآية ـ أعني وجوب التبيّن ـ علّق علىوصف «الفاسق» وتعليق حكم على صفة يدلّ على انتفاء سنخه بانتفائها، فإذلم يكن المخبر فاسقاً، بل كان عادلاً، أو كان غير عادل ولا فاسق ـ بناءً علىثبوت الواسطة بينهما ـ فلم يجب التبيّن في خبره، وإذا لم يجب التبيّن عن خبرالعادل، فإمّا أن يردّ وإمّا أن يقبل، ولا سبيل إلى الأوّل، لأنّه يلزم أن يكونالعادل أسوء حالاً من الفاسق، فيتعيّن الثاني، وهو المطلوب، لأنّا لا نعنيبحجّيّة الخبر الواحد إلاّ قبوله.
والحاصل: أنّ الآية تدلّ بمنطوقها على عدم حجّيّة خبر الفاسق، وبمفهوموصفها على حجّيّة خبر العادل فقط بناءً على كونهما ضدّين لا ثالث لهما،وعلى حجّيّة خبر من ليس بفاسق ولا عادل أيضاً بناءً على ثبوت الواسطة
- (2) مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 132.
(صفحه284)
بينهما.
وفيه: أنّك قد عرفت(1) أنّه لا مفهوم للجملة الوصفيّة، بل أنكر دلالتها علىالمفهوم كثير ممّن قال بدلالة الجملة الشرطيّة عليه، وذلك لأنّ دلالتها علىالانتفاء عند الانتفاء تبتني على كون الوصف علّة منحصرة للحكم، ولا يمكنالالتزام به، ضرورة أنّ الوصف لا يدلّ عليه لا بمادّته ولا بهيئته، ولا دلالةلمجموع الجملة الوصفيّة أيضاً عليه.
على أنّ المفهوم لا يختصّ بالحكم الإنشائي، فلو كان للوصف مفهوم فلابدّمن أن يكون الجملة الخبريّة أيضاً دالّةً عليه، وهو خلاف الوجدان السليم،ضرورة أنّك إذا قلت: «جاءني رجل عالم» فلا يفيد أنّ العلّة المنحصرة لمجيئههي كونه عالماً، فكذلك إذا قلت: «أكرم رجلاً عالماً».
إن قلت: الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً، لا غالبيّاً(2) أو توضيحيّاً(3).
قلت: إن اُريد باحترازيّة القيد ثبوت المفهوم للجملة المشتملة له فهو أوّلالكلام، وإن اُريد كونه دخيلاً في ثبوت الحكم فهو مسلّم، لكن دخله فيه ليسبمعنى علّيّته المنحصرة التي يتوقّف ثبوت المفهوم عليها، ضرورة أنّ الحكميمكن أن يكون له علّتان مستقلّتان، فحينئذٍ كلّ منهما دخيل في الحكم من دونأن يدلّ دخله فيه على انتفائه عند انتفائه، بل انتفاء الحكم يتوقّف على انتفاءكلتا العلّتين كما لا يخفى.
البحث حول مفهوم الشرط من آية «النبأ»
- (1) راجع ص231 ـ 234 من الجزء الثالث.
- (2) كقوله تعالى: «وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ» النساء: 23.
فإنّ قيد «اللآتي في حجوركم» لا دخل له في حرمة «الربائب» لكنّ الربائب يعشن في حجور بعولةاُمّهاتهنّ غالباً. منه مدّ ظلّه.
- (3) كقوله تعالى: «وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» النور: 33.
فإنّ قيد «إن أردن تحصّناً» توضيح لـ «الإكراه» لأنّ قوام «الإكراه على البغاء» إرادتهنّ التحصّن. م ح ـ ى.
ج4
وأمّا الثاني ـ أعني مفهوم الشرط ـ فتقريبه أنّه لا ريب في كون الآيةالشريفة جملة شرطيّة، والجملة الشرطيّة في رأس الجمل التي ادّعي ثبوتالمفهوم لها، فهي تدلّ على أنّه «إن لم يجئكم فاسق بنبأ ـ بل جاءكم عادل به فلا يجب عليكم التبيّن» فإذا لم يجب التبيّن عند إخبار العدل، فإمّا أن يجبالقبول، وهو المطلوب، أو الردّ، فيكون أسوء حالاً من الفاسق، وهو محال.
وقد اُورد عليه إيرادات متعدّدة:
الأوّل: أنّك قد عرفت في محلّه عدم ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة(1).
البحث حول كون الشرط في آية «النبأ» لبيان تحقّق الموضوع
الثاني: أنّ مفهوم الشرط ـ على فرض ثبوته ـ يختصّ بما إذا كان الشرطمغايراً لموضوع الحكم، كي يمكن بقاء الموضوع مع انتفاء الشرط، كما إذا قال:«إن جاءك زيد فأكرمه» بخلاف المقام، فإنّ الشرط هاهنا ـ وهو مجيء الفاسقبالنبأ ـ سيق لبيان تحقّق الموضوع، كما في قول القائل: «إن رزقت ولداً فاختنه»و«إن ركب زيد فخذ ركابه» و«إن قدم زيد من السفر فاستقبله» و«إنتزوّجت فلا تضيّع حقّ زوجتك» و«إذا قرأت الدرس فاحفظه»، قال اللّهسبحانه: «وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا»(2)، «وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍفَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها»(3)، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.
وبالجملة: لا نبأ عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ لكي يجب تبيّنه.
نظريّة المحقّق الخراساني والنائيني رحمهماالله في المقام
- (1) راجع ص179 ـ 193 من الجزء الثالث.