(صفحه436)
والمراد بـ «العلم» في الآية هو الحجّة الشرعيّة.
والحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة هو اتّباع غير العلم وافتراء علىالشارع حيث إنّه لم يؤذن له.
وفيه: أنّ الاُصوليّين لا يقولون في محتمل الحرمة بالإباحة الواقعيّة، بليقولون بالإباحة الظاهريّة، مع الاعتراف بكون الحكم الواقعي مجهولاً، وحيثمعرفت أنّ المراد بـ «العلم» في الآية الشريفة هو الحجّة الشرعيّة فالقول بإباحةمحتمل الحرمة ظاهرا باستناد ما عرفت من أدلّة الاُصوليّين على البرائة ليسقولاً بغير علم.
ولو كان القول بالإباحة الظاهريّة مصداقا للقول بغير العلم، فالقولبالاحتياط أيضا كان كذلك، لأنّ الحكم الواقعي مجهول عند الأخباريّينأيضا، وقولهم بوجوب الاحتياط في مورد الجهل بالحكم الواقعي قول بغيرعلم، وهو منهيّ عنه بقوله تعالى: «لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ».
إن قلت: بين الاُصوليّين والأخباريّين فرق من حيث العمل، فإنّالأخباري ـ الذي يجتنب باستناد أصالة الاحتياط عن مثل شرب التتن الذيهو محتمل الحرمة والإباحة ـ لم يسئل عنه بـ «لم تركت شرب التتن؟» لأنّغايته أن يكون بحسب الواقع مباحا، والعمل بالمباح لا يكون واجبا لكي يقعتاركه موردا للسؤال.
بخلاف الاُصولي ـ الذي يرتكبه باستناد أصالة البرائة ـ فإنّه يسئل عنهبأنّك «لم ارتكبت شرب التتن مع أنّه محتمل الحرمة عندك؟».
قلت: نعم، ولكن لافرق بينهما بحسب الفتوى، فإنّ الأخباري يفتي بوجوبالاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة، والاُصولي يفتي بعدم وجوب
ج4
الاحتياط فيها، وعلى كلّ منهما إقامة الدليل على فتواه، وإلاّ كان موردلخطاب «لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ» فإن كان الاُصولي موردا لهذا الخطابكان الأخباري أيضا كذلك، وإن كان فتوى الأخباري مستندة إلىحجّةشرعيّة وعقليّة، ولم يصدق عليها القول بغير علم كان فتوى الاُصولي أيضكذلك من دون فرق بينهما.
ومنها: ما نهانا عن الإلقاء في التهلكة، كقوله تعالى: «وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْإِلَى التَّهْلُكَةِ»(1).
فإنّ من التفت إلى أنّ للمشتبه ـ مثل شرب التتن ـ حكما واقعيّا واحتملأنّه كان حراما واقعا ومع ذلك ارتكبه فهو ممّن ألقى نفسه بأيديه إلى التهلكة،وقد نهى اللّه تعالى عنه في الآية الشريفة.
وفيه أوّلاً: أنّ ارتكاب محتمل الحرمة باستناد المجوّزات الشرعيّة والعقليّةـ مثل حديث الرفع وحديث السعة وحديث «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيهنهي» وقاعدة «قبح العقاب بلابيان» ـ لم يصدق عليه الإلقاء في التهلكة، لأنّترخيص الشرع والعقل في الارتكاب مؤمّن من الموءاخذة والعقاب.
بل موضوع الآية الشريفة هو أطراف العلم الإجمالي، لتحقّق احتمال العقوبةالناشئ من احتمال الحرمة فيها والعلم بالتكليف إجمالاً وعدم الترخيص منناحية الشارع، لاالشبهات البدويّة التي ورد فيها مؤمّنات ومرخّصات كثيرة.
وثانيا: أنّ النهي في الآية الشريفة نهي إرشادي، ولا يمكن أن يكونمولويّا. وذلك لأنّ تحقّق مادّة هذا النهي ـ وهو الإلقاء في التهلكة ـ يتوقّف علىأمر أو نهي مولوي منجّز معلوم، مثل الأمر بالصلاة والنهي عن شربالخمر(2)، كي تكون مخالفته مستلزمة لاستحقاق العقوبة والإلقاء في التهلكة،
- (2) كما أنّ تحقّق مادّة الأمر في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ» و «اتَّقُوا اللّهَ» أيضا يتوقّف على أمر أو نهيمولوي منجّز معلوم كي يكون موافقته مصداقا لتلك المادّة أعني «إطاعة اللّه» و«التقوى» ولذلك قلنا بكونالأمر في مثل هاتين الآيتين أيضا إرشاديّا كما تقدّم. منه مدّ ظلّه.
(صفحه438)
فلو كان النهي عن الإلقاء في التهلكة أيضا مولويّا لكان في إطاعة ذلك الأمرأو النهي استحقاق مثوبتين، وفي مخالفته استحقاق عقوبتين، أحدهما: بلحاظذلك الأمر أو النهي، والآخر: بلحاظ قوله تعالى: «لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَىالتَّهْلُكَةِ» ولا يمكن الالتزام بذلك كما تقدّم.
فإذا كان النهي عن الإلقاء في التهلكة إرشاديّا فلم يكن قابلاً للاستدلال فيالمقام، لأنّ النهي الإرشادي تابع لما يرشد إليه، سواء كان محرّما أو مرجوحا.
وثالثا: أنّ الآية الشريفة لا ترتبط بمسألة العقوبة الاُخرويّة المترتّبة علىمخالفة التكاليف الإلهيّة، فإنّها نزلت في سياق آيات الجهاد والقتال، فكانمضمون قوله تعالى: «لاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» أنّ عليكم القتالوالجهاد ضدّ أعداء الإسلام، لأنّكم لو وهنتم في ذلك لتسلّط عليكم الأعداءوكان ذلك سببا لوقوعكم إلى التهلكة، فاستعدّوا للقتال ضدّ أعداء الإسلامولا تمتنعوا من الجهاد وبذل الأنفس والأموال في هذا الطريق ولا تلقوبأيديكم إلى التهلكة.
هذا تمام الكلام في الآيات التي استدلّ بها على وجوب الاحتياط، وقدعرفت عدم تماميّتها في ذلك.
ج4
الروايات التي استدلّ بها لإثبات الاحتياط
وأمّا الأخبار فطوائف أيضا:
الاُولى: ما دلّ على وجوب الكفّ والسكوت عمّا لا يعلم وردّ علمه إلىاللّهتعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام وعدم جواز القول فيه بالآراء(1).
- (1) من هذه الأخبار: ما روي عن حمزة بن الطيّار، أنّه عرض على أبيعبداللّه عليهالسلام بعض خطب أبيه حتّى إذبلغ موضعا منها، قال: كفّ واسكت، ثمّ قال: إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنهوالتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى، قال اللّه تعالى:«فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ». النحل: 43.
ومنها: ما روي عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن الرضا عليهالسلام في حديث اختلاف الأحاديث قال: «وملمتجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكمبالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا».
ومنها: رواية سليم بن قيس الهلالي في كتابه، أنّ عليّ بن الحسين عليهماالسلام قال لأبان بن أبي عيّاش: «يا أخعبد قيس إن وضح بك أمر فاقبله، وإلاّ فاسكت تسلم، وردّ علمه إلى اللّه، فإنّك أوسع ممّا بين السماءوالأرض».
ومنها: ما روي عن جابر عن أبي جعفر عليهالسلام في وصيّة له لأصحابه، قال: «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عندهوردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا».
و منها: رواية عبداللّه بن جندب عن الرضا عليهالسلام في حديث قال: «إنّ هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترّهمبالشبهة ولبّس عليهم أمر دينهم، وأرادوا الهدى من تلقاء أنفسهم، فقالوا: لِمَ ومتى وكيف، فأتاهم الهلكمن مأمن احتياطهم، وذلك بما كسبت أيديهم، وما ربّك بظلاّم للعبيد، ولم يكن ذلك لهم ولا عليهم، بلكان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمهومستنبطه، لأنّ اللّه يقول في كتابه: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَيَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» يعني آل محمّد، وهم الذين يستنبطون منهم القرآن، ويعرفون الحلال والحرام، وهمالحجّة للّه على خلقه».
راجع للاطّلاع على هذه الأحاديث: وسائل الشيعة 27: 25، كتاب القضاء، الباب 4 من أبواب صفاتالقاضي، الحديث 14، وأيضاً 27: 165، 166، 168 و 171، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفاتالقاضي، الأحاديث 36، 40، 48 و 56. م ح ـ ى.
(صفحه440)
وفيه: أنّ الاُصوليّين لا يفتون بالإباحة الواقعيّة في الشبهات التحريميّةالبدويّة، بل هم يعترفون بكون حكمه الواقعي مجهولاً، ولكنّهم يقولونبإباحتها الظاهريّة باستناد الآيات والروايات، فلا يمكن دعوى أنّهم أفتوا فيذلك بآرائهم من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة.
الطائفة الثانية: الروايات الآمرة بالتوقّف عند الشبهة، وهي على قسمين:
أ ـ ما ذكر فيه صرف الوقوف، بدون ذكر علّته.
ب ـ ما ذكر فيه علّة الوقوف أيضا.
أمّا القسم الأوّل: فلا دلالة له على مراد الأخباريّين، لأنّ بعضها لا يدلّ علىوجوب الوقوف، بل يدلّ على صرف رجحانه، مثل قوله عليهالسلام : «أورع الناسمن وقف عند الشبهة»(1) وقوله عليهالسلام : «لاورع كالوقوف عند الشبهة»(2) فإنّهميدلاّن على أنّ للورع مراتب عديدة وأعلى مراتبه هو الوقوف عند الشبهة،وأصل الورع ـ وهو الاجتناب عن محارم اللّه والإتيان بواجباته ـ وإن كانواجبا، إلاّ أنّ تحصيل هذه المرتبة العالية يكون من الاُمور الراجحة، لالواجبة.
وكذلك ما ذكره أمير المؤمنين عليهالسلام في عهده إلى مالك بن الحارث الأشتر:«ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك... وأوقفهم فيالشبهات»(3).
فإنّه أوّلاً: مربوط باختيار القاضي(4)، وثانيا ليس حكما لزوميّا، بل يكون
- (1) وسائل الشيعة 27: 162، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
- (2) وسائل الشيعة 27: 161، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
- (3) نهج البلاغة: 434، الكتاب 53.
- (4) لا بمسألة الافتاء والاستفتاء. م ح ـ ى.