ج4
المفهوم ممّا لا سبيل إلى إنكاره، وبالبيان المتقدّم ظهر: أنّه لا منافاة بين المفهوموعموم التعليل، لأنّ ثبوت المفهوم للقضيّة لا يقتضي تخصيص عمومه، بلالعموم على حاله، والمفهوم يوجب خروج خبر العادل عن موضوعه لا عنحكمه، ولا يكاد يمكن أن يتكفّل العامّ بيان موضوعه من وضع أو رفع، بل إنّميتكفّل حكم الموضوع على فرض وجوده، والمفهوم يمنع عن وجوده ويخرجخبر العادل عمّا وراء العلم الذي هو الموضوع في العامّ، فلا يعقل أن يقعالتعارض بينهما، وذلك واضح(1)، إنتهى.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله
وفيه أوّلاً: منع حكومة المفهوم على عموم التعليل، لما تقدّم من أنّ أدلّةاعتبار الخبر الواحد لا تدلّ على أزيد من حجّيّته، فأين تنزيل الظنّ الحاصلمن خبر العادل منزلة العلم في عالم التشريع كي يكون مفهوم الشرطيّة حاكمعلى عموم التعليل في الآية؟!
وثانياً: أنّ حكومة المفهوم على ظهور التعليل في العموم لو فرض صحّتهإنّما هي فيما إذا كانا في دليلين مستقلّين، بخلاف المقام، لما عرفت من أنّ عمومالتعليل قرينة متّصلة تمنع من ظهور الآية في المفهوم، فلا مفهوم هاهنا كييبحث في أنّه حاكم على عموم التعليل أم لا؟
كلام المحقّق الاصفهاني في جواب المحقّق النائيني رحمهماالله
وأجاب المحقّق الاصفهاني رحمهالله عن مسألة الحكومة في المقام بأنّها تستلزمالدور، لأنّ حكومة المفهوم على عموم التعليل تتوقّف على ثبوت المفهوم
- (1) فوائد الاُصول 3: 172.
(صفحه292)
للشرطيّة، وثبوت المفهوم لها يتوقّف على حكومته على عموم التعليل، وإلفلو لم يكن حاكماً عليه بل وقع التعارض بينهما، لمنع عموم التعليل من انعقادظهور الآية في المفهوم.
وبالجملة: كلّ من ثبوت المفهوم وحاكميّته على ظهور التعليل في العموم فيآية «النبأ» يتوقّف على نفسه، فلا يمكن الالتزام بما التزم به المحقّق النائيني رحمهالله (1).
هذا توضيح ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام.
نظريّة صاحب الكفاية في معنى كلمة «الجهالة» من آية «النبأ»
ومنها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
ولا يخفى أنّ الإشكال إنّما يبتني على كون «الجهالة» بمعنى عدم العلم، مع أنّدعوى أنّها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة(2)،إنتهى.
وعليه فالتعليل يختصّ بخبر الفاسق الذي يحتمل تعمّد الكذب في حقّه،وأمّا العمل بخبر العادل الذي لا يحتمل في حقّه ذلك فلا يعدّ سفاهة عندالعقلاء.
البحث حول ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله
وقد نوقش فيه بوجهين:
أ ـ أنّه خلاف ما نجده في معاجم اللغة، فإنّ «الجهل» فيها يكون في مقابل«العلم» ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.
- (1) نهاية الدراية 3: 212.
ج4
ب ـ أنّ قوله تعالى: «فَتَبَيَّنُوا» يدلّ على لزوم التفحّص عن النبأ الذي جاءبه الفاسق لكي يحصل العلم واليقين بواقعيّة المسألة، فكانت «الجهالة»المذكورة في التعليل أيضاً ما يقابل العلم واليقين.
ولكن يمكن الجواب عن الأوّل: بأنّ «الجهل» استعمل في لسان الرواياتوكثير من الأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهمالسلام في مقابل «العقل»، ويشهد لهأنّ محمّد بن يعقوب الكليني رحمهالله خصّ أحد كتب الكافي بالأحاديث الواردةحول «العقل» و«الجهل» وذكر في رواية للعقل جنوداً وللجهل جنوداً اُخر(1).
بل لا يبعد دعوى ذلك في الآيات القرآنيّة أيضاً، فإنّ «الجهالة» في قولهتعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْقَرِيبٍ»(2) لابدّ من أن تكون بمعنى «السفاهة»، لعدم صحّة القول باختصاصالتوبة بمن عمل السوء بغير علم، بل بابها مفتوح لكلّ من عمل ما لا ينبغيصدوره من العاقل.
وعنالثاني: بأنّ «التبيّن» المأمور به لايختصّ بتحصيلالعلم واليقين فيموردالواقعة التي جاء بها الفاسق، بل لو تفحّصنا وقامت البيّنة على أحد طرفيهلحصل التبيّن أيضاً، ولذا لو تفحّص المسلمون عن إخبار «الوليد» بارتداد بنيالمصطلق وامتناعهم عن أداء الصدقة فقامت البيّنة على ذلك فعملوا علىمقتضاها لم يكن عملهم بدون التبيّن، ولم تصدق عليه إصابة قوم بجهالة.
وبالجملة: قيام البيّنة إمّا من مصاديق «التبيّن» المذكور في الآية، أو يقوممقامه، فإذا كان «التبيّن» يعمّ البيّنة عنواناً أو حكماً لم تصدق «الجهالة»المذكورة في التعليل إلاّ فيما إذا فقد العلم والبيّنة كلاهما.
- (1) الكافي 1: 20، كتاب العقل والجهل، الحديث 14.
(صفحه294)
والحاصل: أنّ ما أجاب به المحقّق الخراساني رحمهالله عن الإشكال صحيح متين.
الإشكال على مفهوم آية «النبأ» باستلزامه خروج المورد
الخامس: أنّ ثبوت المفهوم للآية الشريفة يستلزم خروج المورد عن تحتعمومه.
توضيح ذلك: أنّ المشهور الموافق للتحقيق عدم ثبوت الموضوعاتالخارجيّة بقول عدل واحد، بل لابدّ له من البيّنة، فلو دلّ قوله تعالى: «إِنْجاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا» بمفهومه على حجّيّة الخبر الواحد فلابدّ منتخصيصه في مورده، وهو الإخبار بارتداد بني المصطلق، لأنّه من الموضوعاتالخارجيّة التي لا تثبت بقول عدل واحد، كما لا تثبت بخبر الفاسق، وتخصيصالعامّ وإن كان جائزاً إلاّ أنّه يختصّ بما إذا لم ينجرّ إلىخروج مورده، فلا يمكنالقول بدلالة آية «النبأ» على المفهوم، وإن سلّمنا دلالة الجملة الشرطيّة عليهفي سائر الموارد.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في الجواب عن هذا الإشكال
وقد أجاب المحقّق النائيني رحمهالله عنه بأنّ المورد إنّما كان إخبار «الوليدالفاسق» بارتداد «بني المصطلق» والآية الشريفة إنّما نزلت في شأنه لبيانكبرى كلّيّة، والمورد داخل في عموم الكبرى، وهي قوله تعالى: «إِنْ جاءَكُمْفاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا»، فإنّ خبر الفاسق لا اعتبار به مطلقاً، لا في الموضوعاتولا في الأحكام.
وأمّا المفهوم فلم يرد كبرى لصغرى مفروضة الوجود والتحقّق، لأنّه لم يردفي مورد إخبار العادل بالارتداد، بل يكون حكم المفهوم من هذه الجهة حكمسائر العمومات الابتدائيّة التي لم ترد في مورد خاصّ قابل للتخصيص بأيّ
ج4
مخصّص.
فلا مانع من تخصيص عموم المفهوم بما عدا الخبر الواحد القائم علىالموضوعات الخارجيّة، ولا فرق بين المفهوم والعامّ الابتدائي، سوى أنّ المفهومكان ممّا تقتضيه خصوصيّة في المنطوق استتبعت ثبوت المفهوم، وإلاّ فهو كالعامّالابتدائي الذي لم يرد في مورد خاصّ، ولا ملازمة بين المفهوم والمنطوق منحيث المورد حتّى إذا كان المنطوق في مورد خاصّ فالمفهوم أيضاً لابدّ وأنيكون في ذلك المورد، بل القدر اللازم هو أن يكون الموضوع في المنطوق عينالموضوع في المفهوم(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
البحث حول نظريّة المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وقد نوقش فيه بأنّ المورد وإن كان يختصّ بالمنطوق في سائر الموارد، إلأنّ في الآية الشريفة خصوصيّة تقتضي دخول المورد في المنطوق والمفهومكليهما، وهي أنّ الآية تتضمّن التوبيخ والملامة على عملهم بنبأ الوليد الفاسقوتهيّئهم لمقابلة بني المصطلق، ويفهم منه أنّ هذا التهيّؤ وهذه المقابلة لو كانتناشئة عن نبأ العادل لم يكونوا ملومين عليها، فيعمّ المفهوم خبر العدل الواحدولو كان المخبر به من الموضوعات الخارجيّة، وحيث إنّه لا يمكن الالتزام به،فلابدّ من تخصيصه المستلزم لخروج مورده، وهو مستهجن.
ونحن وإن ارتضينا هذه المناقشة في الدورة السابقة، إلاّ أنّه يمكن الخدشةفيها عند التأمّل الدقيق في أطراف المسألة.
وتوضيحه يتوقّف على أمرين:
أ ـ أنّ الخبر الواحد الوارد في الموضوعات وإن لم يكن حجّة شرعاً، إلاّ أنّه
- (1) فوائد الاُصول 3: 174.