هذا أهمّ الأحاديث التي استدلّ بها في باب البرائة.
و لابدّ من تفصيل البحث حوله، لأنّه مضافا إلى كونه مستندا في الاُصولفي باب البرائة بلحاظ فقرة «ما لا يعلمون» يكون مستندا في أبواب متعدّدةمن الفقه أيضا، كمسألة نسيان الجزء أو الشرط في العبادات المركّبة بلحاظاشتمال الحديث على «النسيان» ومسألة المعاملة الواقعة عن الإكراه وبدون
طيب النفس بلحاظ اشتماله على «ما اُكرهوا عليه» ومسألة الاضطرار إلىشيء محرّم بلحاظ اشتماله على «ما اضطرّوا إليه» وغيرها من الموضوعاتالمذكورة في الحديث.
وقبل بيان مقاصد الحديث لابدّ من تقديم اُمور:
بيان معنى الرفع، والفرق بينه وبين الدفع
الأوّل: أنّ للرفع والدفع ـ بحسب المتفاهم العرفي الذي يوافقه اللغة أيضظاهرا ـ مفهومين متغايرين غيرقابلين للاجتماع.
فإنّ الرفع عبارة عن إزالة الشيء بعد وجوده وتحقّقه.
ففي متعلّقه خصوصيّتان:
أ ـ أنّه أمر موجود، ب ـ أنّ هاهنا ما يقتضي بقائه، بحيث يؤثّر في استمرارهلو لم يعرضه الرافع.
وأمّا الدفع: فهو عبارة عن المنع من حدوث الشيء عند وجود ما يقتضيه.
ففي متعلّقه أيضا خصوصيّتان:
أ ـ أنّه لم يوجد بعد، ب ـ أنّه تحقّق ما يقتضي وجوده، بحيث لو لم يعرضهمانع لأثّر فيه.
والظاهر أنّ «الرفع» استعمل في الحديث الشريف بالمعنى العرفي المتقدّم.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله ذهب إلى أنّه استعمل فيه بمعنى «الدفع» بنحوالحقيقة، فإنّه قال بعد بيان الفرق بينهما بما ذكر:
و لكن هذا المقدار من الفرق لا يمنع عن صحّة استعمال «الرفع» بدل«الدفع» على وجه الحقيقة بلاتصرّف وعناية، فإنّ الرفع في الحقيقة يمنع ويدفع
ج4
المقتضي عن التأثير في الزمان اللاحق أو المرتبة اللاحقة، لأنّ بقاء الشيءكحدوثه يحتاج إلى علّة البقاء وإفاضة الوجود عليه من المبدء الفيّاض في كلّآن، فالرفع في مرتبة وروده على الشيء إنّما يكون دفعا حقيقةً باعتبار علّةالبقاء، وإن كان رفعا باعتبار الوجود السابق، فاستعمال «الرفع» في مقام«الدفع» لا يحتاج إلى علاقة المجاز، بل لا يحتاج إلى عناية أصلاً، بل لا يكونخلاف ما يقتضيه ظاهر اللفظ، لأنّ غلبة استعمال «الرفع» فيما يكون له وجودسابق لا يقتضي ظهوره في ذلك.
وممّا ذكرنا من معنى «الرفع» و«الدفع» يظهر أنّه لا مانع من جعل «الرفع»في الحديث المبارك بمعنى «الدفع» في جميع الأشياء التسعة المرفوعة، و لا يلزممن ذلك مجاز(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّ للعناوين المذكورة في كلام الشارع مفاهيمها العرفيّة،والعرف لا يجوّز استعمال «الرفع» مكان «الدفع» أو بالعكس إلاّ بنحو منالعناية والتجوّز.
وثانيا: أنّ بقاء الشيء وإن كان كحدوثه في الاحتياج إلى العلّة وإفاضةالوجود عليه من المبدء الفيّاض في كلّ آن، إلاّ أنّه لا يوجب أن يسمّى إزالتهعن صفحة الوجود دفعا حقيقةً.
نعم، لو غفل الإنسان عن وجود شيء في الزمن الأوّل أو قطع النظر عنهوحصر نظره في المنع عن وجوده في الزمن الثاني فلا بأس باستعمال كلمة«الدفع» حقيقةً.
- (1) فوائد الاُصول 3: 337.
(صفحه364)
وأمّا «الرفع» فلا يستعمل إلاّ بالنسبة إلى وجود الشيء في الزمن الثاني معلحاظ وجوده في الزمن الأوّل.
ويشهد عليه أنّ الأئمّة عليهمالسلام كانوا يعبّرون أحيانا بـ «الوضع» عندالاستشهاد بحديث الرفع، فيقولون: قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «وضع عن اُمّتي تسعة...»ولا ريب في أنّ «الوضع» إذا تعدّى بـ «عن» كان بمعنى إزالة الشيءالموجود(1)، فلا يقال: «وضع الكتاب عن الأرض» إلاّ فيما إذا كان الكتابموجودا على الأرض.
هل إسناد الرفع إلى الاُمور التسعة حقيقي أو مجازي؟
الأمر الثاني: أنّه لا يصحّ حمل الحديث الشريف على الرفع التكويني،ضرورة أنّ الخطأ والنسيان ونحوهما لم يكن مرفوعا عن اُمّته صلىاللهعليهوآله حقيقةً،فالمراد به هو الرفع التشريعي تسهيلاً للاُمّة وامتنانا عليهم.
وعليه فهل نلتزم بمجازيّة الإسناد أو يمكن أن يكون إسناد الرفع إلىالاُمور المذكورة مع ذلك حقيقيّا؟
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
ذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى كون الإسناد حقيقيّا وأنّا لانحتاج إلى تقديروإضمار في الكلام لتصحيح الإسناد.
فإنّه قال في موضع من كلامه ـ بعد دعوى عدم المجازيّة في الكلمة وفيالإسناد ـ :
أمّا عدم المجازيّة في الإسناد: فلما سيأتي من أنّ إسناد الرفع إلى المذكورات
- (1) ويعكس المعنى فيما إذا تعدّى بـ «على» كما إذا قلت: «وضعت جبهتي على الأرض». منه مدّ ظلّه.