(صفحه30)
يتّصف بالمعلوميّة إلاّ بالعرض، والمعلوم بالذات هو الصورة الحاصلة منه عندالنفس.
ثمّ لا يخفى عليك أنّ العلم إذا أصاب الواقع كان مشتملاً على المعلومبالذات وبالعرض كليهما، وإذا أخطأ كان مشتملاً على الأوّل دون الثاني، فإذعلمت بـ «أنّ زيداً قائم» فلا إشكال في وجود العلم والمعلوم بالذات، وهوالصورة الحاصلة من كون زيد قائماً في النفس، سواء أصاب الواقع أو أخطأ،وأمّا وجود المعلوم بالعرض فيختصّ بصورة الإصابة.
ولا يمكن إنكار وجود القطع في مصطلح الاُصوليّين عند الخطأ، وإلاّ فلميصحّ القول بكونه منجّزاً فيما أصاب ومعذّراً فيما أخطأ، فالإصابة إلى الواقع لتكون من مقوّمات القطع.
إذا عرفت هذا فنقول:
إنّ القطع وإن كان قد ينفكّ عن المعلوم بالعرض، إلاّ أنّه لا ينفكّ عن المعلومبالذات أصلاً.
ولعلّ المحقّق الخراساني والنائيني رحمهماالله أرادا كاشفيّته بالنسبة إلى الثاني دونالأوّل(1).
ويؤيّده أنّ المحقّق النائيني رحمهالله بعد أن صرّح بأنّ الطريقيّة من لوازم ذاتالقطع قال: بل بوجه يصحّ أن يقال: إنّها عين القطع(2).
وجه التأييد أنّ المعلوم بالعرض لا يصلح أن يدّعى كونه عين القطع، فإنّما في الخارج يستحيل أن يكون عين القطع الذي لا يوجد إلاّ في الذهن،بخلاف المعلوم بالذات، إذ لقائل أن يقول: ليس لنا شيئان في النفس يسمّى
- (1) ولكن لا يخفى أنّ غاية ما يقتضيه هذا التوجيه هو كون الطريقيّة من لوازم وجود القطع خارجاً ـ وهوالإدراك الجازم القائم بالنفس ـ لا من لوازم ذاته وماهيّته. م ح ـ ى.
ج4
أحدهما بالعلم والآخر بالمعلوم بالذات، بل الصورة الحاصلة من الخارج لدىالنفس التي نعبّر عنها بالمعلوم بالذات هي عين العلم، فلا يصحّ التعبيربالكاشفيّة المشعرة بتغايرهما(1).
والحاصل: أنّ كاشفيّة القطع إن لوحظت بالنسبة إلى ما في الخارج فليستدائميّة، فضلاً عن كونها عين القطع، أو من لوازم ماهيّته.
وأمّا إن لوحظت بالنسبة إلى الصورة الحاصلة في النفس فلا ريب في كونالقطع طريقاً تامّاً إليها دائماً، ويستحيل انفكاكه عنها، بل لا يبعد دعوى كونهنفسها كما التزم به المحقّق النائيني رحمهالله .
في كون الحجّيّة من آثار القطع بوجوده الخارجي
ثمّ لا إشكال في حجّيّة القطع، بمعنى أنّه ممّا يصحّ احتجاج المولى به علىالعبد، وهو الذي يعبّر عنه بالمنجّزيّة عند الإصابة، واحتجاج العبد في مقابلالمولى، وهو الذي يعبّر عنه بالمعذّريّة عند الخطأ.
إنّما الإشكال في أنّ الحجّيّة هل هي من آثار القطع بوجوده الخارجي، أومن آثار ماهيّته(2)؟
الحقّ هو الأوّل، ضرورة عدم ترتّب المنجّزيّة أو المعذّريّة إلاّ على الإدراكالواقعي القائم بنفس القاطع، ولا يمكن الالتزام بحجّيّة ماهيّته ما لم تصرموجودة، ولا بحجّيّة وجوده الذهني التصوّري الذي يحصل بمثل استماع لفظه.
- (1) إن قلت: هذا التوجيه لا يرتبط بكلام المحقّق النائيني رحمهالله ، لأنّه لم يدّع كون المعلوم عين العلم ليمكنتصحيحه بدعوى أنّ المراد من المعلوم هو المعلوم بالذات، بل ادّعى كون الطريقيّة عين العلم. قلت:نعم، ولكن إذا ثبت عينيّة العلم مع المعلوم بالذات ومغايرته مع المعلوم بالعرض، فالقول بكون الطريقيّةعين العلم يستلزم القول بكونها عين المعلوم بالذات دون المعلوم بالعرض. م ح ـ ى.
- (2) وهو «الإدراك الذي لا يشوبه الترديد» وله وجودان: ذهني، وهو نفس تصوّر ماهيّة القطع الذي يحصلبصرف استماع لفظه مثلاً، وخارجي، وهو الإدراك الواقعي الجزمي القائم بنفس القاطع. منه مدّ ظلّه.
(صفحه32)
وبذلك انقدح لك تفاوت مرتبة الطريقيّة والحجّيّة، فإنّ الطريقيّة في درجةعالية توجب القول بعينيّتها مع القطع كما عرفت، بخلاف الحجّيّة التي لا يصحّإلاّ القول بكونها من لوازم القطع بوجوده الواقعي الخارجي.
استحالة جعل الحجّيّة للقطع ونفيها عنه
ثمّ إنّ حجّيّة القطع من الأحكام العقليّة الضروريّة، فلا حاجة لإثباتها إلىمزيد بيان وإقامة برهان.
وعلى هذا فلا يمكن جعلها شرعاً، لكونه لغواً لا يصدر من الحكيم.
إن قلت: نعم، لا يمكن تأسيس الحجّيّة للقطع، لكن إمضائها بمكان منالإمكان، كإمضاء حجّيّة الأمارات العقلائيّة.
قلت: كلاّ، فإنّ قياس الأحكام العقليّة الضروريّة بالأحكام العقلائيّة معالفارق، فإنّ للشارع إمضاء ما هو معتبر عند العقلاء وردعه، ألا ترى أنّهأمضى كثيراً من الاُمور المعتبرة عندهم، وردع عن بعضها، كالربا الذي حرّمهاللّه تعالى مع كونه من المعاملات الرائجة بين عقلاء العالم؟
وهذا بخلاف الاُمور العقليّة الضروريّة، إذ ليس للشارع أن يوافقهتارةً ويخالفها اُخرى، لأنّها أساس الشرع، وملاك حجّيّة قول الشارع،حيث إنّ لزوم إطاعته ينتهي إلى حكم عقلي فطري، فلو تزلزل الأحكامالعقليّة لتزلزل الأحكام الشرعيّة أيضاً، لابتنائها عليها، بخلاف الأحكامالعقلائيّة.
إن قلت: فكيف يكون الظلم قبيحاً عقلاً ومحرّماً شرعاً، هل هذا إلاّ حكمالشارع في مورد حكم العقل؟!
قلت: ما حكم به الشرع في باب الظلم غير ما حكم به العقل، فإنّ العقل
ج4
يدرك قبحه، والشارع يحكم بحرمته بملاك هذا القبح، فحكم العقل بقبح الظلميكون بمنزلة العلّة لحكم الشرع بحرمته.
والحاصل: أنّ في باب الظلم حكمين متغايرين: أحدهما عقلي، والآخرشرعي، بخلاف مسألة حجّيّة القطع، فإنّها بوحدتها تكون من أحكام العقلتارةً، ومن أحكام الشرع اُخرى لو قلنا بجعلها من قبل الشارع.
وهذا الذي ألجأنا إلى حمل الأمر في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ»(1) علىالإرشاد، لأنّ مولويّته تستلزم محاذير منها اللغويّة.
وبذلك انقدح عدم إمكان نفي الحجّيّة عن القطع أيضاً، فإنّك عرفت أنّالأحكام العقليّة الضروريّة التي منها حجّيّة القطع أساس الشرع، فإنّ إثباتالصانع ووحدانيّته وحجّيّة قول الشارع وسائر المسائل المتفرّعة على هذهالاُمور تبتني على الإدراكات العقليّة الضروريّة، فمخالفتها ولو من قبل الشارعتستلزم تزلزل بنيان الشرع أيضاً.
نقد ما استدلّ به صاحب الكفاية على المسألة
واستدلّ المحقّق الخراساني رحمهالله لإثبات استحالة نفي الحجّيّة عن القطعـ مضافاً إلى ما تقدّم ـ بكونه مستلزماً لاجتماع الضدّين(2) اعتقاداً مطلقاً،وحقيقةً في صورة الإصابة(3).
وفيه: ما قدّمناه في مسألة اجتماع الأمر والنهي ـ تبعاً لسيّدنا الاُستاذ الأعظمالإمام قدسسره ـ من أنّ التضادّ يختصّ بالاُمور الواقعيّة التكوينيّة، ولا يعمّ
- (2) فإنّك إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة مثلاً، فلو قال الشارع: «هذا القطع ليس بحجّة» لزم منه اجتماعالنقيضين إن أراد بعدم حجّيّته عدم وجوب صلاة الجمعة، واجتماع الضدّين إن أراد به إباحتها. منه مدّظلّه في توضيح كلام صاحب الكفاية رحمهالله .
(صفحه34)
الاعتباريّات التي منها الأحكام الشرعيّة(1).
ويشهد عليه أنّ الضدّين لا يمكن اجتماعهما ولو من قبل شخصين، مع أنّشيئاً واحداً يمكن أن يكون مبعوثاً إليه من قبل شخص، ومزجوراً عنه منقبل شخص آخر.
إن قلت: لو اختصّ التضادّ بالاُمور الواقعيّة لجاز للمولى أن يأمر عبدهبشيء وينهاه عن نفس ذلك الشيء، مع أنّه مستحيل بالضرورة.
قلت: إنّ الاستحالة هاهنا ليست ناشئة عن اجتماع البعث والزجرالاعتباريّين، بل ناشئة عن مبدئيهما، فإنّ البعث يتوقّف على مبادٍ: منها حبّالمبعوث إليه، والزجر يتوقّف على مبادٍ اُخر: منها بغض المزجور عنه، والحبّوالبغض متضادّان حقيقةً، لكونهما أمرين واقعيّين قائمين بنفس المولى، فليمكن اجتماعهما كما لا يمكن اجتماع البياض والسواد(2).
ثمّ ناقش سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله على المحقّق الخراساني رحمهالله بوجهآخر أيضاً في تعليقته على الكفاية بقوله:
وأمّا حديث اجتماع الضدّين اعتقاداً أو حقيقةً، فيمكن دفعه، فإنّ العلمكالشكّ من عوارض المعلوم بوجه، كالشكّ الذي من طوارئ المشكوك، فكمأنّ المشكوك بما أنّه مشكوك موضوع يمكن تعلّق حكم متضادّ للذات به ـ بناءًعلى صحّة الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري بنحو الترتّب ـ كذلك المعلومبما أنّه معلوم يصحّ تعلّق حكم منافٍ للذات به.
نعم، جعل الحكم المنافي للذات لعنوان المعلوم يوجب اللغويّة، لكن هذأمر آخر غير الامتناع الذاتي(3)، إنتهى.
- (2) على أنّ الأمر والنهي المتعلّقين بشيء واحد لو توجّها إلى مكلّف واحد لكان تكليفاً بالمحال، وهوممتنع، كالتكليف المحال. م ح ـ ى.