ويرد عليه أوّلاً: أنّها معارضة بدعوى السيّد المرتضى الإجماع على عدمحجّيّته.
والحاصل: أنّ حجّيّة الخبر الواحد عند انسداد باب العلم أمرٌ مجمعٌ عليهبين الفقهاء والاُصوليّين في جميع الأعصار والأمصار من دون نكير أصلاً.
ويرد عليه أوّلاً: الإشكال الثاني الذي أوردناه على التقرير السابق، من أنّنعلم أو نحتمل أن يكون مستند المجمعين ما بأيدينا من الآيات والروايات، فلقيمة لهذا الإجماع.
وثانياً: أنّه لا يمكن دعوى كون المنكرين بأجمعهم في عصر انفتاح بابالعلم، فإنّ منهم المفسّر الكبير الشيخ الطبرسي صاحب «مجمع البيان» وهومن المتأخّرين الذين كانوا في عصر انسداد باب العلم.
سلّمنا أنّ جميع المنكرين قالوا بحجّيّة الخبر الواحد على فرض الانسداد،إلاّ أنّا لا نعلم أنّ حجّيّته عندهم كانت من باب الظنّ الخاصّ الذي هو محلّالبحث، فلعلّهم قالوا حينئذٍ بحجّيّة الظنّ المطلق الذي من مصاديقه خبرالواحد.
هذا كلّه في الإجماع القولي منقولاً ومحصّلاً.
ومنها: الإجماع العملي، فإنّ جميع العلماء من الاُصوليّين والأخباريّينيستندون في المسائل الفقهيّة المتعدّدة إلى الخبر الواحد.
وفيه أوّلاً: أنّك قد عرفت مخالفة السيّد المرتضى ومن تبعه للعمل بخبرالواحد، فكيف يمكن دعوى عمل الجميع به لكي ينكشف به رأيالمعصوم عليهالسلام ؟!
وثانياً: أنّ آرائهم في وجه التمسّك بالخبر الواحد مختلفة:
فذهب جمع من الأخباريّين إلى أنّا نقطع بصدور جميع روايات الكتبالأربعة، وجمع آخر إلى أنّا نطمئنّ بصدورها، وجمع ثالث إلى أنّها محفوفةبقرائن موجبة للاطمئنان به، وذهب أكثر الفقهاء والاُصوليّين إلى أنّ وجه
(صفحه330)
التمسّك بالخبر الواحد هو كونه حجّة وإن لم يحصل القطع أو الاطمئنانبصدوره.
فلايمكن أن يكون هذا الإجماع العملي ـ مع اختلاف مباني المجمعين ـ كاشفعن كون المعصوم موافقاً للعمل بالخبر الواحد الذي لا يقطع ولا يطمئنّبصدوره.
ومنها: الإجماع العملي من قبل المتشرّعة، لاستقرار سيرتهم على العملبخبر الثقة في الاُمور الدينيّة، ويشهد عليه ما نرى من رجوع العوامّ إلى منيثقون به ممّن ينقل فتوى الفقيه الذي يقلّدونه، لصعوبة الحضور بين يديهوأخذ الفتوى منه بلا واسطة.
وكان الأمر كذلك أيضاً في زمن الأئمّة عليهمالسلام ، بل كان أخذ الأحكام منهم عليهمالسلام مباشرةً أصعب؛ للموانع الطبيعيّة والسياسيّة في ذلك الزمان، من تباعد البلادالإسلاميّة وصعوبة السفر، وكونهم عليهمالسلام في حال التقيّة.
وبالجملة: لا ريب في استقرار سيرة المتشرّعة على الأخذ بقول الثقة فيالاُمور الدينيّة من عصر الأئمّة المعصومين عليهمالسلام إلى زماننا هذا.
لكن يمكن أن يقال: الظاهر أنّ رجوع المتشرّعة إلى خبر الثقة إنّما هو منباب بناء العقلاء، لا أنّه سيرة جارية بينهم خاصّة، وستعرف أنّ بناء العقلاءأهمّ دليل على حجّيّة الخبر الواحد، لكن لا يصحّ تسميته إجماعاً عمليّاً منقبل المتشرّعة.
الوجوه العقليّة التي اُقيمت على حجّيّة الخبر الواحد
وأمّا العقل: فقد قرّر بوجوه:
أحدها: أنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمّة
ج4
الأطهار عليهمالسلام ؛ لأنّ اهتمام الرواة بشأن الأحاديث ووسوستهم في من تنقل عنهـ بحيث شدّد بعضهم على بعض لأجل نقله عن الضعفاء ـ يوجب القطعبصدور كثير من الأحاديث التي بأيدينا من المعصومين عليهمالسلام .
وحينئذٍ فلابدّ من العمل بكلّ رواية مشتملة على التكليف، لحكم العقلبأصالة الاشتغال في موارد العلم الإجمالي.
وهذا الدليل وإن كان تامّاً في نفسه، إلاّ أنّه لا ينطبق على المدّعى؛ لأنّهيقتضي لزوم العمل بالخبر الواحد المثبت للتكليف من باب أصالة الاشتغال،فلا يكاد ينهض على حجّيّة الخبر التي قضيّتها أن يكون الخبر منجّزاً عندالإصابة ومعذّراً عند الخطأ، فلا يمكن تخصيص عمومات الكتاب أو تقييدمطلقاته به؛ لأنّ هذا الدليل لا يقتضي إلاّ لزوم الاحتياط في مورد الرواياتللعلم الإجمالي بصدور بعضها، وأمّا كونها حجّة منجّزة ومعذّرة ومخصّصةومقيّدة فلا يمكن إثباته بهذا الدليل.
ثانيها: أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيّما الاُصول الضروريّة،كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أنّ جلّأجزائها وشرائطها وموانعها إنّما تثبت بالخبر غير القطعي، بحيث نقطع بخروجحقائق هذه الاُمور عن كونها هذه الاُمور عند ترك العمل بالخبر الواحد.
ويرد عليه ما أوردناه على التقرير الأوّل، فإنّ الوصول إلى جلّ أجزاءالواجبات الضروريّة وشرائطها وموانعها وإن كان منحصراً في الأخبارالآحاد، إلاّ أنّ لازمه لزوم الاحتياط بالعمل بالأخبار المتضمّنة لتلك الأجزاءوالشرائط والموانع، لأجل العلم الإجمالي بكونها في الأخبار، وهذا لا ينطبقعلى المدّعى، وهو حجّيّة الخبر الواحد بحيث يكون منجّزاً ومعذّراً ومخصّصومقيّداً.
(صفحه332)
كلام صاحب «هداية المسترشدين» في المقام
ثالثها: ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله صاحب الحاشية النفيسة على المعالم،وحاصله: أنّا نعلم بالأدلّة القطعيّة ـ منها حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين أنّا مكلّفون بالرجوع إلى السنّة إلى يوم القيامة، كما أنّا مكلّفون بالكتاب.
وحينئذٍ فإن تمكّنّا من العلم بالسنّة أخذنا بها، وإلاّ فلابدّ من التمسّك بميظنّ كونه سنّةً(1). هذا حاصل كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله
وفيه: أنّه إن أراد بـ «السنّة» التي وجب الرجوع إليها بالأدلّة القطعيّة نفسقول المعصوم عليهالسلام وفعله وتقريره، فلا يرتبط بالمقام؛ لأنّ وجوب الرجوع إليهلا يثبت حجّيّة الخبر الحاكي عنها التي هي محلّ النزاع.
وإن أراد بها «السنّة الحاكية» فهي خلاف ظاهر ما ادّعاه من الأدلّة، فإنّالمراد من التمسّك بالعترة في «حديث الثقلين» هو الرجوع إلى أقوالهم وأفعالهموتقريراتهم، وأمّا وجوب العمل بالأخبار الحاكية عنها فلا دلالة له عليه لبالمطابقة ولا بالالتزام.
اللّهمَّ إلاّ أن يُقال برجوع هذا الدليل إلى أحد الدليلين السابقين، من أنّنعلم بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار، أو بأنّ الوصول إلى جلّ أجزاءالواجبات الضروريّة وشرائطها وموانعها ينحصر في الأخبار الآحاد.
وقد عرفت الجواب عنهما.
نعم، يمكن أن يقال: إنّه رحمهالله أراد بـ «السنّة» نفس قول المعصوم وفعله
- (1) هداية المسترشدين 3: 373.