(صفحه364)
وأمّا «الرفع» فلا يستعمل إلاّ بالنسبة إلى وجود الشيء في الزمن الثاني معلحاظ وجوده في الزمن الأوّل.
ويشهد عليه أنّ الأئمّة عليهمالسلام كانوا يعبّرون أحيانا بـ «الوضع» عندالاستشهاد بحديث الرفع، فيقولون: قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : «وضع عن اُمّتي تسعة...»ولا ريب في أنّ «الوضع» إذا تعدّى بـ «عن» كان بمعنى إزالة الشيءالموجود(1)، فلا يقال: «وضع الكتاب عن الأرض» إلاّ فيما إذا كان الكتابموجودا على الأرض.
هل إسناد الرفع إلى الاُمور التسعة حقيقي أو مجازي؟
الأمر الثاني: أنّه لا يصحّ حمل الحديث الشريف على الرفع التكويني،ضرورة أنّ الخطأ والنسيان ونحوهما لم يكن مرفوعا عن اُمّته صلىاللهعليهوآله حقيقةً،فالمراد به هو الرفع التشريعي تسهيلاً للاُمّة وامتنانا عليهم.
وعليه فهل نلتزم بمجازيّة الإسناد أو يمكن أن يكون إسناد الرفع إلىالاُمور المذكورة مع ذلك حقيقيّا؟
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
ذهب المحقّق النائيني رحمهالله إلى كون الإسناد حقيقيّا وأنّا لانحتاج إلى تقديروإضمار في الكلام لتصحيح الإسناد.
فإنّه قال في موضع من كلامه ـ بعد دعوى عدم المجازيّة في الكلمة وفيالإسناد ـ :
أمّا عدم المجازيّة في الإسناد: فلما سيأتي من أنّ إسناد الرفع إلى المذكورات
- (1) ويعكس المعنى فيما إذا تعدّى بـ «على» كما إذا قلت: «وضعت جبهتي على الأرض». منه مدّ ظلّه.
ج4
يكون على وجه الحقيقة بلا تقدير ولا إضمار(1).
وقال في موضع آخر:
قيل: إنّ دلالة الاقتضاء تقتضي تقديرا في الكلام، لشهادة الوجدان والعيانعلى وجود الخطأ والنسيان في الخارج، وكذا غير الخطأ والنسيان ممّا ذكر فيالحديث الشريف، فلابدّ من أن يكون المرفوع أمرا آخر مقدّرا، صونا لكلامالحكيم عن الكذب واللغويّة. وقد وقع البحث والكلام في تعيين ما هو المقدّر،فقيل: إنّ المقدّر هو المؤاخذة والعقوبة، وقيل: إنّه عموم الآثار، وقيل: إنّه أظهرالآثار بالنسبة إلى كلّ واحدٍ من التسعة.
والتحقيق: أنّه لا حاجة إلى التقدير، فإنّ التقدير إنّما يحتاج إليه إذا توقّفتصحيح الكلام عليه، كما إذا كان الكلام إخبارا عن أمر خارجي، أو كانالرفع رفعا تكوينيّا، فلابدّ في تصحيح الكلام من تقدير أمر يخرجه عنالكذب، وأمّا إذا كان الرفع رفعا تشريعيّا فالكلام يصحّ بلاتقدير، فإنّ الرفعالتشريعي كالنفي التشريعي ليس إخبارا عن أمر واقع، بل إنشاء لحكم يكونوجوده التشريعي بنفس الرفع والنفي، كقوله صلىاللهعليهوآله : «لا ضرر ولا ضرار»(2)وكقوله عليهالسلام : «لا شكّ لكثير الشكّ»(3) ونحو ذلك ممّا يكون متلوّ النفي أمرا ثابتفي الخارج.
وبالجملة: ما ورد في الأخبار ممّا سيق في هذا المساق سواء كان بلسانالرفع أو الدفع أو النفي إنّما يكون في مقام تشريع الأحكام وإنشاءها، لا فيمقام الإخبار عن رفع المذكورات أو نفيها حتّى يحتاج إلى التقدير، وسيأتيمعنى الرفع التشريعي ونتيجته.
- (1) فوائد الاُصول 3: 337.
- (2) وسائل الشيعة 25:420، كتاب إحياء الموات، باب 7 من أبواب إحياء الموات، الحديث 2.
- (3) راجع وسائل الشيعة 8 : 227 ـ 229، كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.
(صفحه366)
والغرض في المقام مجرّد بيان أنّ دلالة الاقتضاء لا تقتضي تقديرا في الكلامحتّى يبحث عمّا هو المقدّر.
لا أقول: إنّ الرفع التشريعي تعلّق بنفس المذكورات، فإنّ المذكورات فيالحديث غير «مالايعلمون» لا تقبل الرفع التشريعي، لأنّها من الاُمورالتكوينيّة الخارجيّة، بل رفع المذكورات تشريعا إنّما يكون برفع آثارهالشرعيّة ـ على ما سيأتي بيانه ـ ولكن ذلك لا ربط له بدلالة الاقتضاء وصونكلام الحكيم عن اللغويّة والكذب، بل ذلك لأجل أنّ رفع المذكورات في عالمالتشريع هو رفع ما يترتّب عليها من الآثار والأحكام الشرعيّة، كما أنّ معنى«نفي الضرر» هو نفي الأحكام الضرريّة، فتأمّل جيّدا(1)، إنتهى كلامه.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله
وفيه أوّلاً: أنّ الحديث من قبيل الإخبار عن أمر خارجي الذي اعترفبأنّه لو كان كذلك لاحتاج إلى تقدير وإضمار لتصحيح الإسناد، وذلك لأنّالتشريع وإنشاء الحكم بيداللّه تعالى، وأمّا الروايات الصادرة عن النبيّ صلىاللهعليهوآله وأهل بيته عليهمالسلام إنّما هي في مقام الإخبار عن الأحكام الإلهيّة، لا في مقام التقنينوتشريع الأحكام.
نعم، ورد في خصوص الصلوات الرباعيّة والثلاثيّة أنّ الركعتين الاُوليينفرض اللّه، وما زاد عليهما فرض النبيّ صلىاللهعليهوآله (2)، وأمّا سائر الأحاديث المتضمّنة
- (1) فوائد الاُصول 3: 337.
- (2) فروي «أنّ اللّه عزّ وجلّ فرض الصلاة ركعتين ركعتين عشر ركعات، فأضاف رسول اللّه صلىاللهعليهوآله إلىالركعتين ركعتين، وإلى المغرب ركعةً، فصارت عديل الفريضة، لا يجوز تركهنّ إلاّ في سفر، وأفردالركعة في المغرب فتركها قائمة في السفر والحضر، فأجاز اللّه عزّ وجلّ له ذلك كلّه، فصارت الفريضةسبع عشرة ركعة». الكافي 1: 266، كتاب الحجّة، باب التفويض إلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وإلى الأئمّة عليهمالسلام فيأمر الدين، الحديث 4.
ج4
للأحكام فليست إلاّ في مقام الإخبار عمّا حكم به اللّه تعالى.
وعليه فالرافع للاُمور المذكورة في حديث الرفع هو اللّه تعالى، والنبيّ صلىاللهعليهوآله أخبر عن ذلك بقوله: «رفع عن اُمّتي تسعة...».
وثانيا: سلّمنا أنّه إنشاء للحكم، ـ وتقريبه أن لا يكون الحديث كلامالنبيّ صلىاللهعليهوآله ، بل كلام اللّه الذي وصل إلينا بواسطته صلىاللهعليهوآله ، فكأنّه تعالى قال: «رفعتعن الاُمّة الإسلاميّة تسعة...» ـ إلاّ أنّا لا نسلّم الفرق بين الإخبار والإنشاء فيالاحتياج إلى التقدير وعدمه، بل إسناد الرفع إلى الاُمور التسعة يحتاج إلىالتقدير، سواء كان إخبارا أو إنشاءا.
والحاصل: أنّه لا يمكن الالتزام بأنّ إسناد الرفع إلى المذكورات يكون علىوجه الحقيقة بلاتقدير ولا إضمار.
ما هو المقدّر المصحّح للإسناد؟
ثمّ إنّ في المضاف المقدّر احتمالات:
1ـ أن يقدّر «المؤاخذة»، لسنخيّتها مع الرفع المتعلّق بالعناوين المذكورة،فإنّ شرب الخمر مثلاً محرّم يستتبع العقوبة والمؤاخذة، وأمّا إذا وقع خطأو نسيانا أو إكراها ونحوها رفعت مؤاخذته، فكأنّه صلىاللهعليهوآله قال: «رفع عن اُمّتيتسعة: مؤاخذة الخطأ إلخ».
ويمكن المناقشة في هذا الاحتمال بوجوه:
أ ـ أنّ ظاهر الرفع في الحديث الشريف هو الرفع التشريعي، والمؤاخذة أمرتكويني، لكونها عبارةً عن عمل المولى وعقوبته، ولا يمكن تعلّق الرفعالتشريعي بأمرٍ تكويني.
(صفحه368)
بل لا يمكن تقدير «استحقاق المؤاخذة» أيضا، لكونه ممّا حكم به العقل،فلا يمكن رفعه في جوّ الشرع.
ب ـ أنّ الرفع اُسند إلى نفس العناوين التسعة ادّعاءً، ولا يمكن تصحيح هذالادّعاء بصرف كون المرفوع خصوص «المؤاخذة».
ج ـ أنّ تقدير «المؤاخذة» لا يلائم بعض الروايات الواردة عنأهل البيت عليهمالسلام ، مثل ما روي عن أبي الحسن عليهالسلام قال: «سألته عن الرجليستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك، أيلزمه ذلك؟فقال: لا، ثمّ قال: قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : وضع عن اُمّتي ما اُكرهوا عليه، وما لميطيقوا، وما أخطأوا»(1).
فإنّ الحلف بالطلاق والعتاق وصدقة مايملك في حال الاختيار وطيبالنفس ليس محرّما مستلزما لاستحقاق العقوبة لكي ترفع عند الإكراه.
فسؤال الراوي ليس عن وجود المؤاخذة على هذا اليمين، بل عن صحّتهوترتّب الأثر عليه.
ثمّ إنّ الحديث يحتاج إلى توجيه وتوضيح، فإنّ مثل الطلاق والعتاقوالصدقة لا تكاد تتحقّق بصرف الحلف عليها وإن لم يكن الحالف مكرها،فالقضيّة فرضيّة، بمعنى أنّ الحلف بهذه الاُمور لا يصحّ ولا يؤثّر في حالالإكراه، ولو فرض صحّته في حال الاختيار وطيب النفس.
2ـ أن يجعل المقدّر في كلّ من هذه الاُمور التسعة ما هو المناسب من أثرهبلحاظ مصاديقه، فلو اُكره على شرب الخمر مثلاً كان المرفوع هو الحدّ، ولواُكره على الطلاق كان المرفوع حصول البينونة بين الزوجين، فإذا رفع الحدّ فيالمثال الأوّل والبينونة في المثال الثاني فكأنّه لم يتحقّق شرب الخمر أو الطلاق،
- (1) وسائل الشيعة 23: 237، كتاب الأيمان، الباب 16 من أبواب الأيمان، الحديث 6.