(صفحه288)
عنوان «البيّنة».
الإشكال على مفهوم آية «النبأ» بعموم التعليل فيه
الرابع: أنّ التعليل الوارد في الآية الشريفة ـ وهو قوله: «أَنْ تُصِيبُوا قَوْمبِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ» ـ يشترك بين المنطوق والمفهوم، لأنّ«الجهالة» فيها بمعنى «عدم العلم» ولا ريب في أنّ خبر الواحدلا يفيد العلم، سواء كان المخبر عادلاً أو فاسقاً، فعموم التعليل في الآية يقتضيأن لا يكون لها مفهوم، ولو سلّم أنّ أمثالها ظاهرة في المفهوم.
وبعبارة اُخرى: ظهور التعليل في العموم أقوى من ظهور الجملة الشرطيّةفي المفهوم، فيقدَّم عليه، بل عموم التعليل في الآية بمنزلة القرينة المتّصلة التيتمنع من انعقاد الظهور على خلافها.
إن قلت: فعلى هذا ذكر «الفاسق» في الآية يكون لغواً، لعدم اختصاصوجوب التبيّن بخبره، بل يعمّ خبر العادل أيضاً.
قلت: لعلّ ذكر عنوان «الفاسق» في الآية كان لغرض إفهام أنّ«الوليد» ـ الذي نزلت الآية في شأنه ـ يتّصف بالفسق، لا لكونه دخيلفي الحكم.
والحاصل: أنّ ظهور التعليل في العموم قرينة على عدم دلالة القضيّةالشرطيّة في الآية على المفهوم.
هذا إشكال مهمّ في المقام كان مورداً للنقض والإبرام بين العلماء من قديمالأيّام حتّى من زمن الشيخ الطوسي رحمهالله إلى الآن.
وقد اُجيب عنه بوجوه:
منها: أنّ الآية إن اختصّت منطوقاً ومفهوماً بالنبأ الذي لا يفيد العلم
ج4
ـ كما هو ظاهرها ـ كان التعليل أعمّ من المفهوم، لأنّ المفهوم يدلّ علىحجّيّة خبر العادل الذي لا يفيد العلم، والتعليل يدلّ على عدم حجّيّةالخبر الذي لا يفيد العلم، سواء أخبر به العادل أو الفاسق، وقاعدة لزومتخصيص العامّ بالخاصّ تقتضي حجّيّة القضيّة الشرطيّة بالنسبة إلىالمنطوق والمفهوم ورفع اليد عن ظهور التعليل في العموم والقول باختصاصهبمورد المنطوق.
ولو كان النبأ يعمّ الخبر المفيد للعلم وغير المفيد له(1) كان النسبة بين المفهوموالتعليل عموماً من وجه، ومادّة اجتماعهما هي خبر العادل الذي لا يفيدالعلم(2)، فالمفهوم يدلّ على حجّيّته والتعليل على عدمها، ولا يصحّ إخراجهمن المفهوم وإبقائه تحت التعليل، لاستلزامه لغويّة المفهوم، ضرورة أنّه لا أثرللمفهوم بالنسبة إلى مصداقه الآخر ـ وهو خبر العادل الذي يفيد العلم ـ لأنّالعلم حجّة ولو حصل من خبر الفاسق، لأنّ حجّيّته ذاتيّة، فلابدّ من إخراجمادّة الاجتماع من التعليل وإبقائه تحت المفهوم، صوناً للكلام من اللغويّة فيناحية المفهوم.
لكن هذا الجواب لا يُسمن ولا يُغني من جوع؛ لأنّ الحكم يدور مدار العلّةنفياً وإثباتاً، وسعةً وضيقاً، فالعلّة في الآية تمنع من انعقاد ظهور الجملةالشرطيّة في المفهوم.
وبالجملة: ظهور الجملة الشرطيّة في المفهوم ـ على فرض ثبوته ـ إنّما هو فيمإذا لم تقترن بقرينة أقوى على خلافه، فإذا اقترنت بعلّة مخالفة له فلا مفهوم في
- (1) هذا فرض تخيّلي، إذ لا يمكن القول بعدم اعتبار العلم الناشئ من خبر الفاسق، لأنّ حجّيّة العلم ذاتيّة غيرقابلة للجعل نفياً وإثباتاً كما تقدّم في مبحثه. منه مدّ ظلّه.
- (2) ومادّة الافتراق من ناحية المفهوم هي خبر العادل الذي يفيد العلم، ومادّة الافتراق من ناحية التعليل هيخبر الفاسق الذي لا يفيد العلم. م ح ـ ى.
(صفحه290)
البين كي تلاحظ النسبة بينهما ويقال: لابدّ من تخصيص العلّة بالمفهوم، رعايةًلقاعدة العامّ والخاصّ، أو إبقاء مادّة الاجتماع تحت المفهوم، صوناً للكلام مناللغويّة.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ومنها: ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ عموم التعليل لا يعارض المفهوم،بل المفهوم يكون حاكماً على العموم، لأنّه يقتضي إلغاء احتمال مخالفة خبرالعادل للواقع وجعله محرزاً له وكاشفاً عنه، فلا يشمله عموم التعليل، لا لأجلتخصيصه بالمفهوم لكي يقال: إنّه يأبى عن التخصيص، بل لحكومة المفهومعليه، فليس خبر العدل من أفراد العموم، لأنّ أقصى ما يقتضيه العموم هوعدم جواز العمل بما وراء العلم، والمفهوم يقتضي أن يكون خبر العدل علماً فيعالم التشريع، فلا يعقل أن يقع التعارض بين المفهوم وعموم التعليل، لأنّالمحكوم لا يعارض الحاكم ولو كان ظهور المحكوم أقوى من ظهور الحاكم أوكانت النسبة بينهما العموم من وجه.
والسرّ في ذلك: هو أنّ الحاكم إنّما يتعرّض لعقد وضع المحكوم، إمّا بتوسعةالموضوع بإدخال ما ليس داخلاً فيه، وإمّا بتضييقه بإخراج ما ليس خارجعنه، والمفهوم في الآية يوجب تضييق موضوع العامّ وإخراج خبر العادل عنهموضوعاً بجعله محرزاً للواقع.
فإن قلت: إنّ ذلك كلّه فرع ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة، والمدّعى هوأنّ عموم التعليل واتّصاله بها يمنع عن ظهور القضيّة في المفهوم.
قلت: المانع من ثبوت المفهوم ليس إلاّ توهّم منافاته لعموم التعليل،وعمومه يقتضي عدم كون القضيّة ذات مفهوم، وإلاّ فظهورها الأوّلي في
ج4
المفهوم ممّا لا سبيل إلى إنكاره، وبالبيان المتقدّم ظهر: أنّه لا منافاة بين المفهوموعموم التعليل، لأنّ ثبوت المفهوم للقضيّة لا يقتضي تخصيص عمومه، بلالعموم على حاله، والمفهوم يوجب خروج خبر العادل عن موضوعه لا عنحكمه، ولا يكاد يمكن أن يتكفّل العامّ بيان موضوعه من وضع أو رفع، بل إنّميتكفّل حكم الموضوع على فرض وجوده، والمفهوم يمنع عن وجوده ويخرجخبر العادل عمّا وراء العلم الذي هو الموضوع في العامّ، فلا يعقل أن يقعالتعارض بينهما، وذلك واضح(1)، إنتهى.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله
وفيه أوّلاً: منع حكومة المفهوم على عموم التعليل، لما تقدّم من أنّ أدلّةاعتبار الخبر الواحد لا تدلّ على أزيد من حجّيّته، فأين تنزيل الظنّ الحاصلمن خبر العادل منزلة العلم في عالم التشريع كي يكون مفهوم الشرطيّة حاكمعلى عموم التعليل في الآية؟!
وثانياً: أنّ حكومة المفهوم على ظهور التعليل في العموم لو فرض صحّتهإنّما هي فيما إذا كانا في دليلين مستقلّين، بخلاف المقام، لما عرفت من أنّ عمومالتعليل قرينة متّصلة تمنع من ظهور الآية في المفهوم، فلا مفهوم هاهنا كييبحث في أنّه حاكم على عموم التعليل أم لا؟
كلام المحقّق الاصفهاني في جواب المحقّق النائيني رحمهماالله
وأجاب المحقّق الاصفهاني رحمهالله عن مسألة الحكومة في المقام بأنّها تستلزمالدور، لأنّ حكومة المفهوم على عموم التعليل تتوقّف على ثبوت المفهوم
- (1) فوائد الاُصول 3: 172.
(صفحه292)
للشرطيّة، وثبوت المفهوم لها يتوقّف على حكومته على عموم التعليل، وإلفلو لم يكن حاكماً عليه بل وقع التعارض بينهما، لمنع عموم التعليل من انعقادظهور الآية في المفهوم.
وبالجملة: كلّ من ثبوت المفهوم وحاكميّته على ظهور التعليل في العموم فيآية «النبأ» يتوقّف على نفسه، فلا يمكن الالتزام بما التزم به المحقّق النائيني رحمهالله (1).
هذا توضيح ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام.
نظريّة صاحب الكفاية في معنى كلمة «الجهالة» من آية «النبأ»
ومنها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
ولا يخفى أنّ الإشكال إنّما يبتني على كون «الجهالة» بمعنى عدم العلم، مع أنّدعوى أنّها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة(2)،إنتهى.
وعليه فالتعليل يختصّ بخبر الفاسق الذي يحتمل تعمّد الكذب في حقّه،وأمّا العمل بخبر العادل الذي لا يحتمل في حقّه ذلك فلا يعدّ سفاهة عندالعقلاء.
البحث حول ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله
وقد نوقش فيه بوجهين:
أ ـ أنّه خلاف ما نجده في معاجم اللغة، فإنّ «الجهل» فيها يكون في مقابل«العلم» ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.
- (1) نهاية الدراية 3: 212.