وبعبارة اُخرى: لا يمكن الشكّ في حكم العرف بتوقّف الامتثال في الحكمالتحريمي المتعلّق بالطبيعة على ترك جميع أفرادها، وأمّا جعله تحت ضابطةفلسفيّة ـ كما فعل المحقّق الخراساني رحمهالله حيث قال: «الطبيعة توجد بوجود فردما ولا تنعدم إلاّ بانعدام جميع الأفراد» ـ فلا يمكن الالتزام به كما تقدّم(3).
هذه أقسام تعلّق التكليف بالطبيعة.
واستدلّ المنكرون بأنّ المولى إذا قال:« أكرم كلّ عالم» أو «لا تشربالخمر» كان البيان تامّا من قبل المولى، وواصلاً إلى العبد فرضا، إلاّ أنّه شكّلأجل اُمور خارجيّة في عالميّة شخص أو في خمريّة مايع، فلاوجه لجريان
البرائة العقليّة ولا النقليّة.
أمّا العقليّة: فلعدم كون العقاب حينئذٍ بلابيان كما لا يخفى.
بخلاف الشبهات الحكميّة التي كان منشأها عدم النص أو إجماله أو تعارضالنصّين أو النصوص، فإنّ البيان من قبل المولى لم يتمّ فيها، وكان العقاب عليهعقابا بلابيان ومؤاخذة بلابرهان.
وأمّا النقليّة: فلأنّه لا يرفع بمثل «حديث الرفع» إلاّ ما كان وضعه بيدالشارع، والموضوعات ـ مثل عالميّة زيد وخمريّة المايع الفلاني ـ ليس وضعهعلى عهدة الشارع بما هو شارع كي يكون رفعها بيده، فلا يعمّها «حديثالرفع» وسائر ما كان يدلّ على البرائة النقليّة.
وفيه: أنّ العقل يحكم بـ «قبح العقاب بلابيان» في جميع الموارد التي لم يتنجّزالتكليف، وتنجّز التكليف يتوقّف على قياس متشكّل من صغرى وكبرى،مثل «هذا خمر، وكلّ خمر يجب الاجتناب عنه».
فصرف العلم بالكبرى الكلّيّة لا يكفي في تنجّز التكليف ما لم يحرزالصغرى.
ولذا لو قطع المكلّف بعدم خمريّة مايع كان في الواقع خمرا وشربه فلميكنللشارع عقوبته ومؤاخذته، مع أنّ بيان الكبرى الكلّيّة من قبل الشارع ـ وهوقوله: «كلّ خمر حرام» ـ يكون تامّا وواصلاً إلى المكلّف.
وحينئذٍ فإذا شككنا في خمريّة مايع فلانتمكّن من تشكيل قياس صحيحمنتج، إذ لا يصحّ أن نقول: «هذا خمر» أو «هذا ليس بخمر» كي يترتّب عليهوجوب الاجتناب أو عدم وجوبه، بل الصحيح هو أن نقول: «هذا مشكوك(1)
- (1) لم نأخذ عنوان «القطع» في القضيّة في موارد القطع بالخمريّة أو عدمها، بل عبّرنا فيهما بـ «هذا خمر»و«هذا ليس بخمر» لكون «القطع» هاهنا طريقيّا، بخلاف الشكّ الذي لا يتصوّر كونه طريقا، ولا يصحّ أننعبّر في مورده بـ «هذا خمر» أو «ليس بخمر» بل لابدّ من التعبير بـ «هذا مشكوك الخمريّة». منه مدّ ظلّه.
ج4
الخمريّة» وليس لنا كبرى كلّيّة مترتّبة على «مشكوك الخمريّة» بل الدليلالواصل من قبل الشارع هو قوله: «كلّ خمر يجب الاجتناب عنه» فما لم يحرزخمريّة مايع لم ينطبق عليه هذه الكبرى الكلّيّة.
ومن هنا علم أنّه لا يكفي لتنجّز التكليف وترتّب العقوبة على مخالفتهصدور البيان من قبل المولى ووصوله إلى العبد، بل لابدّ من قيام حجّة مركّبةمن صغرى وكبرى على ذلك التكليف.
فإذا لم يكن حجّة على التكليف ـ كما في الشبهات الموضوعيّة المتنازع فيها يحكم العقل بـ «قبح العقاب بلابيان» أي بلاقياس وحجّة منطقيّة.
وأمّا مثل «حديث الرفع» فلاضير في عدم شموله للشبهات الموضوعيّة،فإنّه لا يدلّ حينئذٍ على الرفع فيها، لا أنّه يدلّ على عدم الرفع كي يكونمناقضا لقاعدة «قبح العقاب بلابيان» فتكفي هذه القاعدة العقليّة لإثباتالبرائة في الشبهات الموضوعيّة.
وبالجملة: تجري قاعدة «قبح العقاب بلابيان» في الشبهات البدويّة الحكميّةوالموضوعيّة من موارد العمومات الاستغراقيّة، سواء كانت وجوبيّة أوتحريميّة، إلاّ أنّ نقصان البيان والحجّة مستند إلى كبرى القياس في الشبهاتالحكميّة، وإلى صغراه في الشبهات الموضوعيّة، ولافرق بين استناد النقص إلىالصغرى أو الكبرى في عدم إنتاج القياس.
حكم الشبهات الموضوعيّة من القسم الثاني
وأمّا الشبهات الموضوعيّة من القسم الثاني ـ أعني ما إذا تعلّق الحكمبالطبيعة بنحو العموم المجموعي ـ فلا تجري أصالة البرائة في الشبهات