ج4
الاُولى: أنّا إذا لم نعلم أنّ الكلام استعمل في المعنى الحقيقي أو المجازي فماذتقتضيه القاعدة؟
مثاله ما إذا قال المتكلّم: «رأيت أسداً» واحتملنا أنّه أراد الاستعمالالمجازي لكنّه نسي أن يوصل بكلامه قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي،فشككنا أنّه أراد من كلمة «أسد» الحيوان المفترس، أو الرجل الشجاع.
والحقّ أنّ اللفظ يحمل على المعنى الحقيقي، باستناد أصالة الحقيقة بناءً علىالمشهور من كون المجاز استعمالاً في غير ما وضع له.
وأمّا بناءً على المختار من كونه استعمالاً فيما وضع له ـ بالتقريب الذيقدّمناه في محلّه ـ فلا مجال لأصالة الحقيقة، لكن هاهنا أصل عقلائي آخريعيّن المعنى الحقيقي، وهو أصالة عدم الخطأ فيما إذا احتمل أنّه نسى القرينةولم يذكره خطأ، كما أنّ هذا الأصل محكّم فيما إذا احتمل تبديل لفظ بلفظٍ آخر،مثل أنّه قال: «أكرم زيداً» واحتملنا أنّه أراد إكرام عمرو وأمر بإكرامزيد خطأً.
والحاصل: أنّ اللفظ يحمل على المعنى الحقيقي ـ عند احتمال نسيان القرينة بلا خلاف، لكن باستناد «أصالة الحقيقة» بناءً على مذهب المشهور في بابالمجاز، وباستناد «أصالة عدم الخطأ» بناءً على المختار فيه.
وليس لنا أصل آخر باسم «أصالة عدم القرينة» لتشخيص المرادالاستعمالي كما يستفاد من كلام الشيخ الأعظم رحمهالله (1).
- (1) قال الشيخ رحمهالله في بيان الأمارات التي خرجت من تحت الأصل واُقيم الدليل على اعتبارها:
منها: الأمارات المعمولة في استنباط الأحكام الشرعيّة من ألفاظ الكتاب والسنّة، وهي على قسمين:
القسم الأوّل: ما يعمل لتشخيص مراد المتكلِّم عند احتمال إرادته خلاف ذلك، كأصالة الحقيقةعند احتمال إرادة المجاز، وأصالة العموم والإطلاق، ومرجع الكلّ إلى أصالة عدم القرينةالصارفة عن المعنى الذي يقطع بإرادة المتكلّم الحكيم له لو حصل القطع بعدم القرينة. فرائدالاُصول 1: 135.
(صفحه216)
الثانية: أنّ المستعمل فيه إذا كان معلوماً لنا، لكن يحتمل أن يكون المتكلِّمفي مقام الهزل والمزاح(1) فللعقلاء أصل يسمّى «أصالة التطابق بين الإرادةالجدّيّة والاستعماليّة».
هذه هي الاُصول العقلائيّة لتشخيص المراد الاستعمالي والجدّي.
أصالة الظهور
إنّ المحقّق الخراساني رحمهالله كثيراً ما تمسّك بـ «أصالة الظهور».
فإن أراد إثبات المراد الاستعمالي بها، أي «الأصل ظهور هذا الكلام في هذالمعنى» فقد عرفت أنّ الأصل المستخدم لتشخيص الإرادة الاستعماليّة هو«أصالة الحقيقة» بناءً على مذهب المشهور في المجاز، و«أصالة عدم الخطأ»بناءً على المختار فيه.
وإن أراد إثبات المراد الجدّي بها، أي «الأصل أنّ هذا المراد الاستعمالي هومراد جدّاً» فهو عبارة اُخرى عن «أصالة التطابق بين الإرادتين».
مورد الحاجة إلى الاُصول العقلائيّة المتقدّمة
ثمّ إنّ الروايات الصادرة من قبل المعصومين عليهمالسلام الواصلة إلى المسلمين علىقسمين: لأنّ الموصول إليه تارةً يكون معاصراً للمصدر الأصلي ـ وهوالنبيّ صلىاللهعليهوآله أو الإمام عليهالسلام ـ ويأخذ الروايات منه بلا واسطة، كزرارة ومحمّد بنمسلم وابن أبي عمير ويونس بن عبد الرحمان وأمثالهم، واُخرى لا يدرك
- (1) أو يحتمل أنّه أقام قرينة منفصلة على خلاف الظاهر لكنّها لم تصل إلينا وإن بذلنا جهدنا للحصولعليها في مظانّها، كما إذا كان بأيدينا عامّ أو مطلق ولم نجد له مخصّصاً أو مقيّداً بعد الفحص التامّ عنهما.م ح ـ ى.
ج4
المعصوم عليهالسلام بل يأخذ الروايات من الوسائط كما في زماننا هذا.
فإن كان الكلام من القسم الأوّل فلا مجال لجريان أصالة الحقيقة أو أصالةعدم الخطأ، لعدم احتمال نسيان المعصوم عليهالسلام القرينة المتّصلة، لعصمته عليهالسلام منالذنب والخطأ كليهما.
وأمّا إن كان من القسم الثاني فاحتمال الخطأ في الواسطة أمرٌ معقول؛ لأنّنحتمل أنّ قوله عليهالسلام : «أعتق رقبة» مثلاً ـ الذي وصل إلينا فرضاً بواسطة محمّدبن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكّوني عن أبيعبداللّه عليهالسلام ـ كان مقروناً بقيد وقد نسيه أحد هؤلاء الوسائط الخمسة، فنحتاجلرفع هذا الاحتمال إلى أصالة عدم الخطأ والنسيان(1).
نعم، لا فرق بين القسمين في احتمال تخلّف الإرادة الجدّيّة عن الاستعماليّةـ حتّى في الكلام الصادر عن المعصوم عليهالسلام ـ لأجل احتمال التقيّة(2) ونحوها،فلابدّ لرفعه من التمسّك بـ «أصالة التطابق بين الإرادتين» فلا فرق بين الكلامالصادر عن العقلاء والصادر عن المعصوم فيما هو العمدة في مبحث حجّيّةالظواهر، وهي طريقة استكشاف المراد الجدّي.
ثمّ إنّه قد وقع الكلام في اُمور ثلاثة:
الأوّل: في أنّ حجّيّة الظواهر هل هي مشروطة بالظنّ بالوفاق أو بعدمالظنّ بالخلاف، أم غير مشروطة بشيءٍ منهما؟
الثاني: في أنّها هل تختصّ بمن قصد إفهامه أو تعمّ غيره أيضاً؟
الثالث: في أنّها هل تختصّ بغير ظواهر الكتاب أو تعّمها أيضاً؟
البحث حول الأمر الأوّل
- (1) كما نحتاج لرفع احتمال الزيادة والنقيصة عمداً إلى إحراز وثاقة الراوي أو عدالته. م ح ـ ى.
- (2) تقدّم منه مدّ ظلّه آنفاً أنّ التقيّة لا تنافي الإرادة الجدّيّة. م ح ـ ى.
(صفحه218)
أمّا الأمر الأوّل: فالمشهور أنّ الظنّ الشخصي بالخلاف غير قادح في حجّيّةالظواهر، فضلاً عن عدم الظنّ بالوفاق.
ولا يصغى إلى كلام من خالفهم، لاستقرار بناء العقلاء على العمل بظاهرالكلمات في جميع الموارد، ألا ترى أنّ المولى إذا قال لعبده: «أكرم زيداً» كانظاهره ـ وهو وجوب إكرام زيد ـ حجّةً على العبد، سواء ظنّ بالوجوب أوبعدم الوجوب أو لم يظنّ بشيء أصلاً، فلو لم يمتثل الأمر لذمّه العقلاء وعاقبهالمولى، ولا يصحّ اعتذاره بأنّ صيغة «افعل» وإن كانت ظاهرة في الوجوب،إلاّ أنّي لم أظنّ بتعلّق إرادة المولى به جدّاً، أو ظننت أنّ إرادته الجدّيّة تعلّقتبالاستحباب.
والحاصل: أنّ ظاهر الكلام ـ سواء كان الحقيقة أو المجاز ـ حجّة عندالعقلاء، ولا فرق في ذلك بين خصوصيّات المخاطب وحالاته الشخصيّة.
البحث حول اختصاص حجّيّة الظواهر بمن قصد إفهامه
وأمّا الأمر الثاني: فلا ينبغي الشكّ في أنّ ظواهر الكلام حجّة في حقّ من لميقصد إفهامه، بل وفي حقّ من قصد عدم إفهامه، كما أنّها حجّة في حقّ منقصد إفهامه.
كلام صاحب القوانين في ذلك
خلافاً للمحقّق القمي رحمهالله حيث يظهر منه الفرق بين من قصد إفهامهبالكلام، فالظواهر حجّة بالنسبة إليه من باب الظنّ الخاصّ ـ سواء كانمخاطباً، كما في الخطابات الشفاهيّة، أم لا، كما في الناظر في الكتب المصنّفةلرجوع كلّ من ينظر إليها ـ وبين من لم يقصد إفهامه بالخطاب، كأمثالنبالنسبة إلى أخبار الأئمّة الصادرة عنهم عليهمالسلام في مقام الجواب عن سؤال
ج4
السائلين، وبالنسبة إلى الكتاب العزيز بناءً على عدم كون خطاباته موجّهةإلينا وعدم كونه من باب تأليف المصنّفين، فالظهور اللفظي ليس حجّة حينئذٍلنا إلاّ من باب الظنّ المطلق الثابت حجّيّته عند انسداد باب العلم(1).
وغاية ما يمكن أن يقال في تقريب هذا القول أنّ منشأ حجّيّة الظواهر هيأصالة عدم الغفلة، إذ بعد كون المتكلّم في مقام البيان كان احتمال إرادة خلافالظاهر مستنداً إلى احتمال غفلة المتكلّم عن نصب القرينة، أو غفلة السامع عنالالتفات إليها، والأصل عدم الغفلة في كلّ منهما، وأمّا احتمال تعمّد المتكلّم فيعدم نصب القرينة فهو مدفوع بأنّه خلاف الفرض، إذ المفروض كونه في مقامالبيان، فلا منشأ لاحتمال إرادة خلاف الظاهر إلاّ احتمال الغفلة من المتكلِّم أومن السامع، وهو مدفوع بالأصل المتحقّق عليه بناء العقلاء، وهذا الأصل ليجري بالنسبة إلى من لم يكن مقصوداً بالإفهام، لعدم انحصار الوجه لاحتمالإرادة خلاف الظاهر بالنسبة إليه في احتمال الغفلة، ليدفع بأصالة عدم الغفلة، إذيحتمل اتّكال المتكلّم في ذلك على قرينة حاليّة كانت معهودة بينه وبين منقصد إفهامه وقد خفيت على من لم يكن مقصوداً بالإفهام، فلا تجديه أصالةعدم الغفلة، ولا يجوز له التمسّك بالظواهر.
والحاصل: أنّ ظواهر الكتاب والسنّة ليست حجّة بالنسبة إلينا،لاختصاص حجّيّة الظواهر بمن قصد إفهامه، ونحن لسنا من المقصودينبالإفهام في الآيات والروايات، لعدم كونهما من قبيل الكتب المصنّفة لرجوعكلّ من ينظر إليها، بل الخطابات الشفاهيّة والأخبار الصادرة عن الأئمّة عليهمالسلام فيمقام الجواب عن سؤال السائلين تختصّ بالمشافهين.
فلايمكن إثبات حجّيّة ظواهر الكتاب والروايات من باب الظنّ الخاصّ
- (1) قوانين الاُصول 1: 229، السطر 16، و 398، السطر 23.