(صفحه188)
في الإثبات ـ أيضاً من الاُمور المجعولة، كالحجّيّة، ولذا عطفها عليه بقوله: «إنّالحجّيّة والطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل وممّا تنالها يد الوضعوالرفع ابتداءً».
وكلامه رحمهالله وإن كان صحيحاً بالنسبة إلى حجّيّة الأمارات، فإنّها مجعولة ولوبجعل إمضائي، إلاّ أنّه مردود بالنسبة إلى طريقيّتها، لأنّ الطريقيّة والكاشفيّةمن أوصافها التكوينيّة التي ترتبط به تعالى بما هو خالق، لا بما هو شارع.
ومنها: قياس الأمارات بالقطع، فكما أنّ مخالفة القطع للواقع أحياناً لا تنافيحجّيّته، لعدم جعل حكم ظاهري على طبقه كي يلزم منه اجتماع حكمينمتضادّين، بل حجّيّته تكون بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة، فكذلك الأمارات.
فإنّه قياس مع الفارق، لكون حجّيّة القطع أمراً عقليّاً، ولا تنالها يد الجعلإثباتاً ونفياً، فحجّيّته لا تستلزم الترخيص من قبل الشارع في مخالفة الحكمالواقعي، بخلاف الأمارات، فإنّ حجّيّتها مجعولة شرعاً، والحجّيّة فيها وإنكانت بمعنى المنجّزيّة والمعذّريّة ـ كالقطع ـ وليست بمعنى جعل حكم ظاهريعلى طبقها، إلاّ أنّ بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه مع ترخيص الشارع فيتركه ـ كما يقتضيه حجّيّة الأمارة المخطئة ـ أمران متنافيان كما تقدّم في جوابكلام المحقّق الخراساني رحمهالله .
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في الاُصول المحرزة(1)
- (1) لا ريب في أنّ جميع الاُصول العمليّة موردها الشكّ في الحكم الواقعي، وقسّمها المحقّق النائيني رحمهالله إلىقسمين: محرزة وغير محرزة، وأراد بالاُصول المحرزة التي عبّر عنها بـ «الاُصول التنزيليّة» أيضاً ما كانلسان دليله لزوم البناء عملاً على أحد طرفي الشكّ والمعاملة معه معاملة الواقع وإلغاء احتمال الخلافعنه، كـ «الاستصحاب» فإنّ مثل «لا تنقض اليقين بالشكّ» يكلّفنا بالبناء العملي على المتيقّن السابق فيمإذا شككنا في بقائه وارتفاعه، وكـ «قاعدة التجاوز» بناءً على كونها أصلاً عمليّاً، فإنّ ما روي ـ في وسائلالشيعة 6: 317، كتاب الصلاة، الباب 13 من أبواب الركوع، الحديث 3 ـ من قوله عليهالسلام في جواب من سألهعن الشكّ في الركوع وقد دخل في الركعة اللاحقة: «بلى قد ركعت» يدلّ على لزوم البناء على تحقّقالركوع في موارد الشكّ فيه بعد التجاوز عن محلّه، وأمّا الاُصول الغير المحرزة فأراد بها ما حكم فيه علىنفس الشكّ من دون النظر إلى أحد طرفيه وإلغاء احتمال الخلاف عنه، كأصالة البراءة والحلّيّة والطهارة.م ح ـ ى.
ج4
ثمّ قال:
وأمّا الاُصول المحرزة: فالأمر فيها أشكل، وأشكل منها الاُصولالغير المحرزة ـ كأصالة الحلّ والبراءة ـ فإنّ الاُصول بأسرها فاقدة للطريقيّة،لأخذ الشكّ في موضوعها، والشكّ ليس فيه جهة إرائة وكشف عن الواقع،حتّى يقال: إنّ المجعول فيها تتميم الكشف، فلابدّ وأن يكون في مورد الاُصولحكم مجعول شرعي، ويلزمه التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي عند مخالفةالأصل له.
هذا، ولكنّ الخطب في الاُصول التنزيليّة هيّن؛ لأنّ المجعول فيها هو البناءالعملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع وإلغاء الطرف الآخر وجعلهكالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجهالطريقيّة، لكونها متكفّلة للجهة الثالثة(1) التي يكون القطع واجداً لها، وهوالجري على وفق القطع وترتيب آثار المقطوع عملاً، كما أنّ الأمارة تكونواجدة للجهة الثانية، وهي جهة الإحراز والكاشفيّة ـ على ما تقدّم بيانه فالمجعول في الاُصول التنزيليّة ليس أمراً مغايراً للواقع، بل الجعل الشرعي إنّمتعلّق بالجري العملي على المؤدّى على أنّه هو الواقع، كما يرشد إليه قوله عليهالسلام فيبعض أخبار قاعدة التجاوز: «بلى قد ركعت» فإن كان المؤدّى هو الواقع فهو،
- (1) قال المحقّق النائيني رحمهالله : يجتمع في القطع جهات ثلاث:
الجهة الاُولى: جهة كونه صفة قائمة بنفس العالم...
الجهة الثانية: جهة إضافة الصورة لذي الصورة، وهي جهة كشفه عن المعلوم ومحرزيّته له وإرائته للواقعالمنكشف...
الجهة الثالثة: جهة البناء والجري العملي على وفق العلم... فوائد الاُصول 3: 16. م ح ـ ى.
(صفحه190)
وإلاّ كان الجري العملي واقعاً في غير محلّه من دون أن يكون قد تعلّق بالمؤدّىحكم على خلاف ما هو عليه.
وبالجملة: ليس في الاُصول التنزيليّة حكم مخالف لحكم الواقع، بل إذا كانالمجعول فيها هو البناء العملي على أنّ المؤدّى هو الواقع، فلا يكون ما وراءالواقع حكم آخر حتّى يناقضه ويضادّه(1)، إنتهى كلامه في الاُصول المحرزةملخّصاً.
نقد ما أفاده رحمهالله في رفع الإشكال عن الاُصول المحرزة
ويظهر جوابه ممّا تقدّم في باب الأمارات، فإنّ إشكال التنافي والتناقضلايختصّ بما إذا جعل على وفق مؤدّى الاُصول حكم ظاهري شرعي مخالفللحكم الواقعي، فإنّك عرفت أنّ الحكم الواقعي لا يمكن أن يجتمع معترخيص الشارع في تركه، فكيف يمكن أن يكون الركوع جزءاً للصلاة مطلقحتّى في حال النسيان، ومع ذلك حكم الشارع بقوله: «بلى قد ركعت» بلزومالبناء على تحقّقه عند الشكّ فيه بعد التجاوز عن محلّه؟!
وبعبارة اُخرى: لا يمكن الجمع بين ثبوت الجزئيّة المطلقة للركوع الشاملةلحال الذكر والنسيان وبين التعبّد بالبناء على تحقّق الركوع عند الشكّ فيه،لاستلزامه الجمع بين المتنافيين إذا كانت الصلاة في الواقع فاقدة للركوع.
رأى المحقّق النائيني رحمهالله في الاُصول غير المحرزة
ثمّ قال رحمهالله :
وأمّا الاُصول الغير المحرزة: ـ كأصالة الاحتياط(2) والحلّ والبراءة ـ فقد
- (1) فوائد الاُصول 3: 110.
- (2) المراد بها أصالة الاحتياط في الشبهات البدويّة التي وقع النزاع بين الاُصوليّين والأخباريّين في أنّها هلهي مجرى البراءة أو الاحتياط، وأمّا أصالة الاحتياط الجارية في الشبهات المقرونة بالعلم الإجماليفليست محلّ الكلام في المقام. منه مدّ ظلّه.
ج4
عرفت أنّ الأمر فيها أشكل، فإنّ المجعول فيها ليس الهوهويّة(1) والجريالعملي على بقاء الواقع، بل مجرّد البناء على أحد طرفي الشكّ من دون إلغاءالطرف الآخر والبناء على عدمه، بل مع حفظ الشكّ يحكم على أحد طرفيهبالوضع أو الرفع، فالحرمة المجعولة في أصالة الاحتياط والحلّيّة المجعولة فيأصالة الحلّ تناقض الحلّيّة والحرمة الواقعيّة على تقدير تخلّف الأصل عنالواقع، بداهة أنّ المنع عن الاقتحام في الشيء، كما هو مفاد أصالة الاحتياط،أو الرخصة فيه، كما هو مفاد أصالة الحلّ، ينافي الجواز في الأوّل، والمنع فيالثاني.
وقد تصدّى بعض الأعلام لرفع غائلة التضادّ بين الحكمين باختلاف الرتبة،فإنّ رتبة الحكم الظاهري رتبة الشكّ في الحكم الواقعي، والشكّ في الحكمالواقعي متأخّر في الرتبة عن نفس وجوده، فيكون الحكم الظاهري في طولالحكم الواقعي، ولا تضادّ بين المختلفين في الرتبة، لأنّ وحدة الرتبة من جملةالوحدات الثمان التي تعتبر في التناقض والتضادّ.
هذا، وأنت خبير بفساد هذا التوهّم، فإنّ الحكم الظاهري وإن لم يكن فيرتبة الحكم الواقعي، إلاّ أنّ الحكم الواقعي يكون في رتبة الحكم الظاهري،لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشكّ فيه، فتأخّر رتبة الحكم الظاهري عنالحكم الواقعي لا يرفع غائلة التضادّ بينهما إلاّ بضمّ مقدّمة اُخرى إلى ذلك.
وتوضيح ذلك: أنّ للشكّ في الحكم الواقعي اعتبارين:
أحدهما: كونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحكم الواقعي أو
- (1) أي البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع. م ح ـ ى.
(صفحه192)
موضوعه ـ كحالة العلم والظنّ ـ وهو بهذا الاعتبار لا يمكن أخذه موضوعلحكم يضادّ الحكم الواقعي، لانحفاظ الحكم الواقعي عنده.
ثانيهما: اعتبار كونه موجباً للحيرة في الواقع وعدم كونه موصلاً إليهومنجّزاً له، وهو بهذا الاعتبار يمكن أخذه موضوعاً لما يكون متمّماً للجعل(1)ومنجّزاً للواقع وموصلاً إليه، كما أنّه يمكن أخذه موضوعاً لما يكون مؤمّناً عنالواقع ـ حسب اختلاف مراتب الملاكات النفس الأمريّة ومناطات الأحكامالشرعيّة ـ فلو كانت مصلحة الواقع مهمّة في نظر الشارع كان عليه جعلالمتمّم ـ كمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه ـ فإنّه لمّا كان حفظ نفس المؤمنأولى بالرعاية وأهمّ في نظر الشارع من مفسدة حفظ دم الكافر، اقتضى ذلكتشريع حكم ظاهري طريقي بوجوب الاحتياط في موارد الشكّ، حفظللحمى وتحرّزاً عن الوقوع في مفسدة قتل المؤمن، وهذا الحكم الطريقي إنّميكون في طول الحكم للواقع، نشأ عن أهمّيّة المصلحة الواقعيّة، ولذا كانالخطاب بالاحتياط خطاباً نفسيّاً وإن كان المقصود منه عدم الوقوع في مخالفةالواقع، إلاّ أنّ هذا لا يقتضي أن يكون خطابه مقدّميّاً، لأنّ الخطاب المقدّميهو ما لا مصلحة فيه أصلاً، والاحتياط ليس كذلك؛ لأنّ أهمّيّة مصلحة الواقعدعت إلى وجوبه، فالاحتياط إنّما يكون واجباً نفسيّاً للغير، لا واجباً بالغير،ولذا كان العقاب على مخالفة التكليف بالاحتياط عند تركه وإدّائه إلى مخالفةالحكم الواقعي، لا على مخالفة الواقع، لقبح العقاب عليه مع عدم العلم به، كمأوضحناه بما لا مزيد عليه في خاتمة الاشتغال.
فإن قلت: إنّ ذلك يقتضي صحّة العقوبة على مخالفة الاحتياط، صادف
- (1) وذكر قبيل هذا أنّ متمّم الجعل فيما نحن فيه يتكفّل لبيان وجود الحكم في زمان الشكّ فيه، ومراده منالمتمّم هو أصالة الاحتياط. فوائد الاُصول 3: 114. م ح ـ ى.