ج4
ومن استدلّ هناك بامتناع اجتماع المصلحة والمفسدة أو الإرادة والكراهةاستدلّ هاهنا بعدم إمكان اجتماع المصلحتين(1)، أو الإرادتين، وكذلك اجتماعالمفسدتين(2) أو الكراهتين.
والجواب كالجواب، لتحقّق عنوانين هاهنا بينهما عموم من وجه، أحدهما:نفس صلاة الجمعة مثلاً، والثاني: كونها مقطوعة الوجوب، ولا يمتنع أن يكونكلّ منهما متعلّقاً للإرادة ومشتملاً على المصلحة، وإن تصادقا في الخارج علىصلاة واحدة.
نعم، يختصّ هذا القسم ببرهان آخر لا يجري في القسم السابق، وهو لزوماللغويّة.
لكنّه أيضاً مخدوش بأنّ بعض المكلّفين لا ينبعث إلاّ عقيب بعثين، ولينزجر إلاّ بواسطة زجرين.
وهذا وجه صحّة تعلّق النذر بالواجبات من دون أن يكون لغواً، فإنّالمكلّف حينما يرى نفسه متكاسلةً في الإتيان بالصلوات اليوميّة مثلاً ربما ينذرفعلها ليكون في معرض توجّه وجوبين، ويفكّر فيما يترتّب على تركها مناستحقاق عقوبتين، فيقوّى في نفسه الداعي إلى الإتيان بها.
والتحقيق هاهنا أيضاً يقتضي القول بالتفصيل، وهو القول بجواز أخذ القطعبحكم تمام الموضوع للحكم المماثل، وعدم جوازه فيما إذا كان بعض الموضوع،لصحّة تعلّق حكمين مستقلّين متماثلين بعنوانين بينهما عموم من وجه،واستحالة تعلّقهما بعنوانين بينهما عموم وخصوص مطلق.
أخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا الحكم
- (1) كالحكمين الوجوبيّين، كقول المولى: «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة يجب عليك صلاة الجمعة».م ح ـ ى.
- (2) كالحكمين التحريميّين، كقول المولى: «إذا قطعت بحرمة الخمر يحرم عليك الخمر». م ح ـ ى.
(صفحه96)
وذهب جمع من المحقّقين الفحول إلى استحالة أخذ القطع بحكم في موضوعنفسه، لاستلزامه الدور(1).
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وقال المحقّق النائيني رحمهالله : وأمّا أخذه موضوعاً بالنسبة إلى نفس الحكم الذيتعلّق العلم به فهو ممّا لا يمكن إلاّ بنتيجة التقييد.
توضيح ذلك: أنّ الانقسامات المرتبطة بالحكم على قسمين:
أ ـ ما هو سابق على الحكم، كما في الواجبات المشروطة، مثل مسألةالاستطاعة بالنسبة إلى الحجّ، فإنّ المكلّف ينقسم إلى مستطيع وغير مستطيع،سواء وجب الحجّ أو لم يجب.
ب ـ ما هو لاحق للحكم، فلم يتحقّق إلاّ في رتبة متأخّرة عنه، كالعلمبالحكم والجهل به، فإنّ المكلّف لا يسمّى عالماً أو جاهلاً بالحكم إلاّ بعد جعلهمن قبل المولى.
لا إشكال في إمكان التقييد اللحاظي(2) والإطلاق في القسم الأوّل، كما قيّدوجوب الحجّ بالاستطاعة في قوله تعالى: «وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِاسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(3)، ولو لم يقيّده لا نعقد الإطلاق.
بخلاف القسم الثاني، فإنّ الانقسامات اللاحقة ـ كالعلم والجهل بالتكليف متأخّرة عن الحكم، فكيف يمكن للمولى لحاظها في مقام الجعل؟!
وإذا امتنع التقييد امتنع الإطلاق أيضاً؛ لأنّ التقابل بينهما من قبيل تقابل
- (2) أراد بـ «التقييد اللحاظي» أن يكون القيد ملحوظاً للمولى في مقام جعل الحكم؛ بخلاف «نتيجة التقييد»التي سيجيء توضيحها. منه مدّ ظلّه توضيحاً لكلام المحقّق النائيني رحمهالله .
ج4
العدم والملكة.
إن قلت: لا يمكن خلوّ الأحكام في مقام الثبوت من التقييد والإطلاق كليهمحتّى بالنسبة إلى الانقسامات اللاحقة، وإن لم يتمكّن المولى من إبلاغه إلىالعبد في قالب اللفظ، ضرورة أنّ ملاك كلّ حكم في الواقع ومقام الثبوت إمّمطلق يعمّ العالم والجاهل، أو مختصّ بالعالم، فهل للمولى طريق إلى إبلاغه إلىالعبد في الانقسامات اللاحقة، بعد أن امتنع فيها التقييد والإطلاق كلاهما فيمقام الجعل؟
قلت: نعم، يمكن بيان الإطلاق أو التقييد في هذا القسم من القيودبدليل آخر ـ غير ما به جعلت الأحكام ـ يسمّى متمّم الجعل، وينتج نتيجةالإطلاق تارةً ونتيجة التقييد اُخرى، كما ادّعي تواتر الروايات على اشتراكالأحكام في حقّ العالم والجاهل، ونحن وإن لم نعثر على تلك الروايات سوىبعض أخبار الآحاد التي ذكرها «صاحب الحدائق» في مقدّمة كتابه، إلاّ أنّالظاهر قيام الإجماع بل الضرورة على ذلك، ومن هنا كان الجاهل المقصّرمعاقباً إجماعاً.
ولكن تلك الأدلّة قابلة للتخصيص، وقد خصّصت في غير مورد، كما فيمورد الجهر والإخفات(1) والقصر والإتمام(2)، حيث قام الدليل على اختصاصالحكم في حقّ العالم، فقد اُخذ العلم شرطاً في ثبوت الحكم واقعاً.
فمن تلك الأدلّة التي نسمّيها «متمّمات الجعل» يستفاد نتيجة الإطلاق، وأنّالأحكام مطلقة في حقّ العالم والجاهل، إلاّ في مثل الجهر والإخفات والقصروالإتمام، حيث إنّ «متمّم الجعل» فيها يفيد نتيجة التقييد وأنّ ملاكات وجوبه
- (1) وسائل الشيعة 6: 86 ، كتب الصلاة، الباب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 1.
- (2) وسائل الشيعة 8 : 506، كتاب الصلاة، الباب 17 من أبواب صلاة المسافر، الحديث 3 و 4.
(صفحه98)
تختصّ بالعالم بالوجوب.
والحاصل: أنّه يمتنع القطع بحكم في موضوع نفسه بنحو التقييد اللحاظي،كأن يقول: «إذا قطعت بوجوب صلاة الجمعة تجب عليك صلاة الجمعة» لكنّهيمكن بنحو «متمّم الجعل» كأن يقول: «صلاة الجمعة واجبة» ثمّ يقول:«وجوب صلاة الجمعة يختصّ بالعالم به» وهذا لا يسمّى التقييد، لكنّه ينتجنتيجته(1).
هذا حاصل ما ذكره رحمهالله في المقام.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله
ويرد عليه أنّ ما ذكره من إمكان إبلاغ الواقع إلى المكلّف بمتمّم الجعلونتيجة التقييد وإن كان صحيحاً في بعض الانقسامات اللاحقة للحكم،كالإتيان بالواجب بقصد امتثال أمره، إلاّ أنّه لا يصحّ فيما نحن فيه، لأنّ متمّمالجعل لا يكاد يرفع غائلة الدور، فإنّ القطع بالحكم يتوقّف عليه، فلو كانموضوعاً له لكان الحكم أيضاً متوقّفاً عليه، وهو دور مصرّح، ولا فرق فيذلك بين تفهيم أخذه في الموضوع بدليل واحد أو بدليلين.
إن قلت: فكيف اختصّ وجوب الجهر والإخفات والقصر والإتمام بالعالمبها؟
قلت: لسان الروايات الواردة في هذين البابين وكذا الفتاوى عدم وجوبالإعادة على الجاهل بالقصر والإتمام أو الجهر والإخفات، لا خروجه عنتحت التكليف بها، فإنّ الشارع المقدّس سهّل الأمر على العباد أحياناً، سيّما فيباب الصلاة التي تتكرّر في كلّ يوم خمس مرّات، فرفع الإعادة عنهم إذا أخلّو
ج4
ببعض الأجزاء والشرائط نسياناً أو جهلاً.
ويؤيّده حديث «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة: الطهور والوقت والقبلةوالركوع والسجود»(1) فإنّه لا يمكن أن يدلّ على انحصار أجزاء الصلاةوشرائطها بهذه الخمسة في صورة الجهل والنسيان، وإلاّ لزم تخصيصالأكثر(2)، فعدم وجوب الإعادة لا يلازم عدم الجزئيّة والشرطيّة.
ثمّ(3) إنّه رحمهالله عبّر عن التقييد بـ «التقييد اللحاظي»(4). فإن أراد أنّ في مقابله«الإطلاق اللحاظي» ففيه: أنّ الإطلاق والسريان لا يكون ملحوظاً للمولى،ولذا قلنا في الفرق بينه وبين العموم بأنّ العموم يستفاد من الوضع، والإطلاقمن طريق مقدّمات الحكمة، فإذا تمّت قرينة الحكمة حكم العقل بأنّ تمامالموضوع للحكم هو نفس الماهيّة.
ولا يمكن أن تكون الماهيّة حاكية عن الأفراد، لأنّ الفرد هو الماهيّةالموجودة المتشخّصة بالتشخّصات الفرديّة، فالفرديّة متأخّرة عن الوجودالذي هو متأخّر عن الماهيّة، فكيف يمكن أن تكون الماهيّة حاكيةً عمّا هومتأخّر عنها بمرحلتين؟!
فالتعبير بـ «التقييد اللحاظي» وإن كان صحيحاً، إلاّ أنّه ليس لنا فيمقابلهما نسمّيه بـ «الإطلاق اللحاظي».
سلّمنا، لكنّ الإطلاق لو كان بمعنى لحاظ متعلّق الحكم مطلقاً، كما أنّ
- (1) وسائل الشيعة 6: 91، كتاب الصلاة، الباب 29 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
- (2) لأنّ للصلاة أجزاءً وشرائط كثيرة ثابتة بأدلّة شاملة بإطلاقها لصورة العلم والجهل والذكر والنسيان،فالقول بعدم وجوب غير هذه الخمسة على الجاهل والناسي يستلزم تخصيص الأكثر. م ح ـ ى.
- (3) لا دخل لهذا الإشكال الثاني بالجهة المبحوث عنها في المقام، بل هو تحقيق مستقلّ حول الإطلاق،وكيفيّة التقابل بينه وبين التقييد، والملازمة المدّعاة بين امتناع الوجود وامتناع العدم في جميع مواردالعدم والملكة. منه مدّ ظلّه.
- (4) حيث قال ما ملخّصه: إنّ إبلاغ خصوصيّات موضوع الحكم يكون بواسطة «التقييد اللحاظي» فيالانقسامات السابقة عليه، وبواسطة «متمّم الجعل» و«نتيجة التقييد» في الانقسامات اللاحقة به. م ح ـ ى.