ج4
منه.
نعم، يمكن الاستدلال على حرمة «إسناد ما لا يعلم كونه من اللّه تعالىإليه»ببعض آيات اُخر، كقوله سبحانه: «وَإِذَا فَعَلُواْ فَـحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَءَابَآءَنَا وَ اللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَلاَ تَعْلَمُونَ»(1).
والقول بحجّيّة الأمارة المشكوكة الحجّيّة يمكن أن يرتبط بالعنوان الثاني،بل هو الظاهر في بادئ النظر؛ لمكان الشكّ في الحجّيّة، فيكون من مصاديق«إسناد ما لا يعلم كونه من اللّه تعالى إليه» فإسناد حجّيّتها أو مفادها إلىالشارع محرّم بمقتضى قوله تعالى: «أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ».
وعلى هذا التقريب لا حاجة إلى الاستصحاب في المقام، بل لا مجال له، لأنّصرف الشكّ ليس موضوعاً للاستصحاب، بل موضوعه الشكّ الذي لوحظمعه الحالة السابقة المتيقّنة.
فإذا ترتّب الحكم على نفس الشكّ فلا مجال للاستصحاب، كما أنّ الأمركذلك أيضاً في قاعدة الاشتغال التي شبّه بها ما نحن فيه في كلام الشيخالأعظم رحمهالله ، فإنّ استدعاء الاشتغال اليقيني البراءة اليقينيّة يترتّب على صرفالشكّ في إتيان الواجب، ولا مجال للقول بعدم جريانها بدعوى جرياناستصحاب الاشتغال وتقدّمه عليها.
نعم، إذا نظرنا إلى البحث بعنوان «التشريع» فلابدّ من إحراز عدم حجّيّةالأمارة المشكوكة الحجّيّة، ليكون إسناد حجّيّتها أو مفادها إلى الشارع منمصاديق «إدخال ما ليس من الدين في الدين»، وحيث إنّ عدم حجّيّتها ليس
- (1) الأعراف: 28. وتوجيه الاستدلال بهذه الآية أنّ الهمزة فيها ليست للاستفهام الحقيقي، بل للإنكارالتوبيخي، فتقتضي أنّ ما بعدها واقع وأنّ فاعله ملوم، فتدلّ على حرمة هذا النوع من القول. م ح ـ ى.
(صفحه208)
محرزا بالوجدان فلابدّ من استصحابه، ليدخل تحت عنوان «التشريع» المحرّم.
والحاصل: أنّ البحث في الأمارة المشكوكة الحجّيّة إن كان متمركزاً علىعنوان «إسناد ما لا يعلم كونه من اللّه تعالى إليه» فهو ينطبق على كلام الشيخالأعظم رحمهالله ، ولا حاجة إلى الاستصحاب، وإن كان متمركزاً على عنوان«التشريع» كان منطبقاً على نظريّة المحقّق الخراساني رحمهالله ، ولابدّ من إحراز هذالعنوان ببركة الاستصحاب.
الحقّ في الأمارات المشكوكة الحجّيّة
3ـ والحقّ في المقام ما ذهب إليه المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
ثالثها: أنّ الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا يحرز التعبّد بهواقعاً عدم حجّيّته جزماً، بمعنى عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة عليهقطعاً، فإنّها لا تكاد تترتّب إلاّ على ما اتّصف بالحجّيّة فعلاً، ولا يكاد يكونالاتّصاف بها إلاّ إذا اُحرز التعبّد به وجعله طريقاً متّبعاً، ضرورة أنّه بدونه ليصحّ المؤاخذة على مخالفة التكليف بمجرّد إصابته، ولا يكون عذراً لدىمخالفته مع عدمها، ولا يكون مخالفته تجرّياً ولا يكون موافقته بما هي موافقةانقياداً، وإن كانت بما هي محتملة لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته،فمع الشكّ في التعبّد به يقطع بعدم حجّيّته وعدم ترتيب شيء من الآثار عليه،للقطع بانتفاء الموضوع معه، ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أوإقامة برهان(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه رحمهالله .
وهو كلام دقيق متين ثبت به عدم حجّيّة ما شكّ في اعتباره من الأمارات.
هذا تمام الكلام فيما يقتضيه الأصل في موارد الشكّ في الحجّيّة.
ج4
(صفحه210)
في حجّيّة الظواهر
الأمر الثالث: في ما قيل أو صحّ أن يقال باعتباره من الأمارات
وبيانه يحتاج إلى ذكر فصول:
الفصل الأوّل: في حجّيّة الظواهر
لا إشكال ولا كلام في لزوم اتّباع الظهورات في تعيين المرادات فيالجملة(1)، ولافرق في ذلك بين كلام الشارع وكلام العقلاء.
وذلك لاستقرار طريقة العقلاء على الأخذ بظواهر الكلمات في جميع شؤونحياتهم الاجتماعيّة، فإنّ القضاة مثلاً يحكمون بمقتضى ظواهر كلامالمتخاصمين، ولا يقبلون دعوى إرادة خلاف الظاهر ممّن أقرّ بظاهر كلامهعلى قتل أو مال أو غيرهما.
ولا طريقة خاصّة للشارع المقدّس في التفهيم والتفهّم غير طريقة العقلاء،ضرورة أنّ الرواة كثيراً ما كانوا يدخلون على المعصومين عليهمالسلام ويسألونهم عنحكم مسألة وكانوا عليهمالسلام يجيبونهم بالألفاظ والعبارات المتداولة بينهم.
نعم، في الكتاب العزيز خصوصيّة اُخرى غير بيان الأحكام، وهيكونه معجزة إلهيّة باقية إلى يوم القيامة، كما أنّه يتحدّى بالإعجاز في آيات
- (1) ذكر هذا القيد إنّما هو لأجل ما سيأتي من القول بالتفصيل في حجّيّة الظواهر بين من قصد إفهامه وغيره،وفي حجّيّة كلام الشارع بين ظواهر الكتاب والروايات. منه مدّ ظلّه.
ج4
كثيرة:
منها: قوله تعالى: «قُل لَّـلـءِنِ اجْتَمَعَتِ الاْءِنسُ وَ الْجِنُّ عَلَىآ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِهَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِى وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا»(1).
ومنها: قوله تعالى: «وَ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍمِّن مِّثْلِهِى وَ ادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ»(2).
ولكنّه مع ذلك يتكلّم في جميع مقاصده من الاُصول والفروع والترغيبوالترهيب والإنذار والتبشير وغيرها بما يتكلّم به عقلاء العرب، فإنّه كتابمنزّل بلسانٍ عربي مبين، فلا منافاة بين كونه معجزة خالدة وبين تبيينهمقاصده بطريقة العقلاء، كما سيأتي إن شاء اللّه.
كما أنّ كون كلام المعصومين عليهمالسلام في أعلى درجات الاستحكام والفصاحةوالبلاغة أيضاً لا يقتضي أن يكون لهم طريقة اُخرى غير طريقة العقلاء فيمقام الإفادة والاستفادة.
بل كانوا يتكلّمون مع الناس بالألفاظ المتعارفة بينهم، ولذا كانويستفيدون من كلماتهم كمال الاستفادة وينجذبون إليها كمال الانجذاب، ألترى أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام حيث قطع الخطبة الشقشقيّة لأجل النظر إلى كتاببعض أهل السواد، قال له ابن عبّاس «عليه الرحمة»: يا أمير المؤمنين لواطّردت(3) خطبتك من حيث أفضيت(4)، فقال عليهالسلام : «هيهات يابن عبّاس، تلكشقشقةٌ(5) هدرت(6) ثمّ قرّت(7)» قال ابن عبّاس: فواللّه ما أسفت على كلامٍ قطّ
- (3) اطّرد النهر: تتابع جريه.
- (4) أفضى: خرج إلى الفضاء، والمراد هنا سكوت الإمام عمّا كان يريد قوله.
- (5) الشقشقة: بكسر فسكون فكسر: شيء كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج.