(صفحه414)
ثواب ولا على مخالفته عقاب، بل شرّع لأجل التحفّظ على الواقع المشكوك،فلو كان شرب التتن مثلاً في الواقع حراما وارتكبه المكلّف كان معاقبا عليه،لا على ترك الاحتياط، ولو لم يكن حراما لما كان عليه شيء.
و حينئذٍ قوله صلىاللهعليهوآله : «الناس في سعة ما لم يعلموا» يدلّ على كون المكلّف فيسعة وعدم كونه في ضيق لأجل مخالفة التكليف المجهول، ودليل وجوبالاحتياط يدلّ على كونه في ضيق ومستحقّا للعقوبة عليها، وهذا هو معنىالتعارض كما هو واضح.
نعم، لو كان الاحتياط واجبا نفسيّا لترتّب على صرف مخالفته استحقاقالعقوبة ولو لم تستلزم مخالفة تكليف واقعي، فيتقدّم على حديث «الناس فيسعة ما لم يعلموا» لأنّ هذا الحديث يدلّ على عدم كون المكلّف في ضيق ماداملم يكن عالما بالتكليف، ودليل الاحتياط يدلّ على التكليف النفسي الذييترتّب عليه المثوبة والعقوبة، فإذا علم به المكلّف علم بالتكليف ولم يبق مجاللحديث «السعة» لارتفاع الجهل وتبدّله إلى العلم، وهذا معنى تقدّم أدلّةالاحتياط على حديث «السعة»(1).
هذا توضيح ما أفاده رحمهالله في المقام.
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
وهو متين على فرض كون وجوب الاحتياط طريقيّا.
وأمّا بناءً على كونه نفسيّا فلانسلّم تقدّمه على حديث «السعة» بل يقعالتعارض بينهما في هذا الفرض أيضا.
و ذلك لأنّ وجوب الاحتياط ـ ولو كان نفسيّا ـ شرّع في مورد الشكّ في
ج4
التكليف، فنفسيّة وجوب الاحتياط لا توجب أن يخرج شرب التتن المجهولالحكم عمّا هو عليه ويصير معلوم الحكم، فكأنّ دليل الاحتياط يقول: «إذشككت في حرمة شرب التتن وحلّيّته يجب عليك الاحتياط» وحديث«السعة» يقول: «أنت في سعة من ناحية شرب التتن المشكوك الحكم ولتستحقّ العقوبة فيما إذا ارتكبته وكان في الواقع حراما».
وبعبارة اُخرى: ليس وجوب الاحتياط ـ حتّى فيما إذا كان نفسيّا ـ حكممستقلاًّ غيرمرتبط بحرمة شرب التتن المشكوكة، بل ورد في موردها، فحديث«السعة» يدلّ على كون المكلّف في سعة من ناحية هذه الحرمة المشكوكة،ودليل وجوب الاحتياط يدلّ على عدم كونه في سعة وأمن منها، بل عليهالاحتياط والاجتناب عنه، وهل هذا إلاّ التعارض.
على أنّ تقدّم أدلّة الاحتياط على الحديث يستلزم حذف الحديث رأسوعدم بقاء مورد له أصلاً، وهذا لا يلائم الحكومة، بل يناسب التعارض، فإنّالمتعارضين إمّا يتساقطان أو يؤخذ بأحدهما تخييرا أو ترجيحا، فعلىالتساقط يسقطان كلاهما ويصيران كالعدم وبلامورد، وعلى التخيير أوالترجيح كان غير المختار أو المرجّح كذلك.
وهذا بخلاف الحكومة، فإنّ الدليل الحاكم لا يوجب سقوط الدليل المحكومرأسا، بل يجرّه إلى سائر موارده غير مورد نفسه، ألا ترى أنّ حكومةقوله عليهالسلام : «لا شكّ لكثير الشكّ»(1) على أدلّة الشكوك(2) توجب صرف هذهالأدلّة إلى غير كثير الشكّ من المكلّفين، لا جعلها كالعدم وبلا مورد رأسا.
- (1) لم أجد رواية بهذه العبارة، نعم، يستفاد مضمونها من الأحاديث الواردة في وسائل الشيعة 8 :227 ـ 229، كتاب الصلاة، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. م ح ـ ى.
- (2) راجع للاطّلاع على هذه الأدلّة وسائل الشيعة 8 : 187، 193، 212، 214، 216، 219، 222، 224 و 225،الأبواب 1، 2، 8 ، 9، 10، 11، 13، 14 و 15 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة. م ح ـ ى.
(صفحه416)
فعلى هذا لا يمكن أن يكون أدلّة الاحتياط حاكمةً على حديث «السعة»لاستلزامه صيرورة الحديث كالعدم وبلامورد، مع أنّها من خواصّ بابالتعارض لا باب الحكومة.
والحاصل: أنّ حديث «السعة» يدلّ على البرائة ويعارض أدلّة الاحتياطـ على فرض تماميّتها ـ سواء جعلت «ما» موصولة أو مصدريّة، وسواء كانالاحتياط واجبا طريقيّا أو نفسيّا.
الاستدلال على البرائة بحديث «الحجب»
ومنها: ما روي عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال:« ما حجب اللّه علمه عن العبادفهو موضوع عنهم»(1).
ولا يخفى عليك أنّ هذا الحديث لو تمّ دلالته على البرائة لكان في عرضأدلّة الاحتياط ووقع التعارض بينهما، لا أنّ أدلّة الاحتياط تتقدّم عليه.
وذلك لأنّ مضمونه يساوق مضمون «حديث الرفع(2)» ويدلّ على رفعغيرالمعلوم من التكاليف عن العباد، ووجوب الاحتياط ولو كان نفسيّا(3)لايقتضي تبدّل التكليف المجهول معلوما.
إنّما الكلام في دلالته على البرائة.
فربما يقال: إنّ حديث «الحجب» لا يرتبط بالمقام، فإنّ للّه تعالى أحكامسكت عنها ولم يبيّنها للعباد(4)، إمّا لأجل التوسعة والتسهيل عليهم، أو لأجل
- (1) وسائل الشيعة 27: 163، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.
- (2) لأنّ «الوضع» إذا عدّي بـ «عن» كان بمعنى الرفع، فكان معنى الحديث أنّ «ما كان من التكاليف محجوبعن العباد ولا يعلمونه فهو مرفوع عنهم» وهذا عين مفاد «حديث الرفع». م ح ـ ى.
- (3) والحقّ أنّ وجوبه طريقي لا نفسي. منه مدّ ظلّه.
- (4) فالأحكام على ثلاثة أقسام: أ ـ ما سكت اللّه تعالى عنه ولم يبيّنه للعباد، ب ـ ما بيّنه ولكنّه لم يصل إلينا،ج ـ ما وصل إلينا وعلمنا به، ومورد أصالة البرائة هو القسم الثاني منها كما لا يخفى. م ح ـ ى.
ج4
مانع غيرمعلوم لنا، ولذا ورود في بعض الأخبار: «اسكتوا عمّا سكت اللّه»(1)فقوله عليهالسلام : «ماحجب اللّه علمه عن العباد» يكون بمعنى «ما سكت اللّه عنه ولميبيّنه للعباد».
والكلام في مسألة البرائة إنّما هو في الأحكام التي بيّنها اللّه للعباد إلاّ أنّها لمتصل إلينا وكلّما فحصنا عنها في مظانّها ماوجدناها، لأنّ الأعداء وغاصبيالحكومة أخفوها وحالوا بيننا وبينها.
وبالجملة: بين «حديث الرفع »و «حديث الحجب» فرق، وهو أنّ «الرفع»اُسند في «حديث الرفع» إلى «مالايعلمون» من دون أن يكون عدم العلممسبّبا عن سبب خاصّ، بخلاف «حديث الحجب» فإنّ عدم العلم فيه مسبّبعن حجب اللّه تعالى وعدم تبيينه للأحكام، والأوّل مورد البرائة دون الثاني.
و يمكن الجواب عن هذه الشبهة بأنّ أفعال العباد الاختياريّة يصحّ نسبتهإلى اللّه تعالى، لكون قدرتهم بل أصل وجودهم منه تعالى، «وَمَا رَمَيْتَ إِذْرَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى»(2)، «بحول اللّه وقوّته أقوم وأقعد»(3) ولذا ورد فيالحديث: «لاجبرو لا تفويض ولكن أمر بين أمرين»(4).
فلامانع من أن يراد بـ «ما حجب اللّه علمه عن العباد» التكاليف التي بيّنهاللّه في متن الشريعة، ولكن أخفاها وحال بيننا وبينها الأعداء وغاصبوالحكومة، فإنّها يصحّ نسبة حجبها إليهم، لكونهم مباشرين في ذلك، وإلى اللّهتعالى، لكون قدرة الفاعلين ناشئةً منه، بل وجودهم ربط إليه.
ويؤيّده التعبير بـ «فهو موضوع عنهم» فإنّ المرفوعيّة والموضوعيّة عن
- (1) عوالي اللئالي 3: 166.
- (3) وسائل الشيعة 6: 361، الباب 13 من أبواب السجود، الحديث 3.
- (4) الكافي 1: 160، كتاب التوحيد، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين، الحديث 13.
(صفحه418)
العباد تدلّ على أنّ للتكليف المرفوع مرتبةً من الثبوت بتبيينه من قبل اللّهسبحانه، إلاّ أنّه إذا فحص عنه العباد ولم يعلموا به فهو مرفوع عنهم، ولميعاقبهم اللّه على مخالفته، امتنانا لهم وتسهيلاً عليهم.
اللّهُمَّ إلاّ أن يقال: أفعال العباد سواء كانت من الحسنات أو السيّئات وإنصحّ إسنادها إليهم وإلى اللّه تعالى، إلاّ أنّه لم يعهد إسناد السيّئات إليه سبحانهحتّى بحسب التعبير، بخلاف الحسنات، فلا يقال: «سرق اللّه» لكن يقال: «قتلاللّه المشركين» فكيف نسب عمل أعداء الإسلام وحجبهم علم التكاليف عنالعباد إلى اللّه سبحانه وتعالى؟!
الاستدلال على البرائة بحديث «كلّ شيء لك حلال...»
ومنها: قوله عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال حتّى تعرف أنّه حرامٌ بعينه»(1).
لا إشكال في أنّ جعل غاية الحلّيّة، المعرفة بالحرمة يدلّ على أنّ الشيءالمأخوذ في المغيّى هو الشيء الذي شكّ في حلّيّته وحرمته، فهو بمقتضى الروايةمحكوم بالحلّيّة الظاهريّة.
إنّما الإشكال في أنّها هل تعمّ جميع الشبهات أو تختصّ بالشبهاتالموضوعيّة؟
كلام صاحب الكفاية في ذلك ونقده
ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى دلالتها على البرائة في الشبهات الموضوعيّةوالحكميّة كلتيهما(2).
- (1) ما وجدت رواية بهذا التعبير، لكن روي عن مسعدة بن صدقة عن أبيعبداللّه عليهالسلام قال: سمعته يقول: «كلّشيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرامٌ بعينه» الحديث. راجع وسائل الشيعة 17: 89 ، كتاب التجارة،الباب 4 من أبواب مايكتسب به، الحديث 4. م ح ـ ى.