ج4
توضيح الشبهة: أنّا إذا شككنا في أنّ السبب المؤثّر في الطلاق مثلاً هل هوالجملة الاسميّة، كقول الزوج: «هي طالق» أو «أنت طالق» أو الفعليّة، كقوله:«طلّقتك» فلو احتاط بالتكلّم بكلتا الجملتين لكان عند التكلّم بكلّ واحدةمنهما شاكّاً في وقوع الطلاق بها، وهو ينافي اعتبار الجزم في إنشاء المعاملات.
وجوابها: أنّ الجزم المعتبر فيها إنّما هو في مقابل التعليق، والتعليق عبارةعن إناطة المعاملة على أمر لم يعلم حصوله، كما إذا قال: «بعتك داري إن شاءأبي» والمقام ليس من هذا القبيل، فإنّ الزوج في المثال المذكور يقصد الطلاقوحصول البينونة بينه وبين زوجته بنحو الجزم والبتّ، إلاّ أنّه لا يعلم أنّالسبب المؤثّر فيه هل هو الجملة الاسميّة أو الفعليّة، والشكّ في السبب ليسبمعنى الشكّ في المسبّب.
والحاصل: أنّه لا إشكال في كفاية الاحتياط في التكاليف التوصّليّةوالمعاملات(1). إنّما الإشكال في كفايته في العبادات.
وليعلم أنّ الامتثال الإجمالي يتصوّر على أربع صور:
لأنّه تارةً يقتضي التكرار(2) في العمل، واُخرى لا يقتضيه(3)، وعلى كلالتقديرين قد يتمكّن المكلّف من الامتثال التفصيلي وقد لا يتمكّن.
لا ريب في سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي فيما إذا لم يتمكّن منالامتثال التفصيلي، سواء استلزم التكرار أم لا، فإذا علم مثلاً بوجوب صلاةالظهر أو الجمعة وانسدّ عليه طريق تعيّن أحد الطرفين بالعلم الوجداني أوبحجّة معتبرة فلو أتى بكلتيهما لكان مجزياً، لحكم العقل بكفاية الاحتياط، بلبلزومه(4) حينئذٍ، لأنّه أعلى مراتب إطاعة المولى، حيث إنّ الامتثال منحصر
- (1) إنّ المعاملات خارجة عن باب التكاليف. منه مدّ ظلّه.
- (2) وهو موارد الدوران بين المتباينين، كما إذا دار أمر الواجب بين صلاة الظهر والجمعة. منه مدّ ظلّه.
- (3) وهو موارد الدوران بين الأقلّ والأكثر، كدوران الأمر بين كون السورة جزءً للصلاة وعدمه. منه مدّ ظلّه.
- (4) وإن كان البحث فعلاً في الكفاية لا في اللزوم. منه مدّ ظلّه.
(صفحه144)
به ولا بديل له.
إنّما الكلام في جواز(1) الامتثال الإجمالي فيما إذا تمكّن من التفصيلي، فإنّهماختلفوا في كفايته، سيّما فيما إذا استلزم التكرار.
أدلّة عدم سقوط التكليف بالامتثال الإجمالي ونقده
استدلّ القائلون بعدم الكفاية بوجوه:
الأوّل: ما اشتهر من بطلان عبادة تاركي طريقي الاجتهاد والتقليد، فإنّالمجتهد لو تمكّن من تعيين وظيفته في يوم الجمعة، ومع ذلك لم يراجع الجوامعالحديثيّة لأجله، بل أتى بصلاتي الظهر والجمعة معاً لكان عمله باطلاً، وكذلكالأمر لو احتاط المقلّد بإتيانهما من دون أن يرجع إلى رسالة من يقلّده.
ويمكن المناقشة أوّلاً: في وجود هذه الشهرة.
وثانياً: في حجّيّة الشهرة الفتوائيّة.
وثالثاً: أنّ كلام المشهور هذا يشبه ما نعبّر عنه بالحصر الإضافي، فإنّهمأرادوا به بطلان عبادة من ترك طريقي الاجتهاد والتقليد ومع ذلك أتى بعمللا يعلم اشتماله على جميع أجزاء المأمور به وشرائطه، فلا يعمّ الاحتياط الذييستلزم العلم بتحقّق المأمور به بتمام حدوده وقيوده.
الثاني: ما نقل عن السيّد الرضيّ رحمهالله من دعوى الإجماع على بطلان صلاةمن لا يعلم حكمها، فإنّ من اختار الامتثال الإجمالي في يوم الجمعة لا يعلم أنّصلاة الجمعة واجبة أم لا، وكذلك الأمر بالنسبة إلى صلاة الظهر، فتكونعبادته باطلة.
- (1) الجواز هاهنا يكون بمعنى الكفاية، لا بمعنى الحلّيّة في مقابل الحرمة. منه مدّ ظلّه.
ج4
وجوابه نظير ما تقدّم في الوجه السابق.
فإنّ فيه أوّلاً: أنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة.
وثانياً: أنّ المراد من «صلاة من لا يعلم حكمها» صلاة من تمكّن من تحصيلالعلم بأجزاء الصلاة وشرائطها، ولكنّه مع ذلك تساهل عن ذلك وأتى بعمل ليعلم اشتماله على جميع ما يعتبر في الصلاة، فيكون جاهلاً مقصّراً وعمله باطلاً.
ولا يعمّ معقد هذا الإجماع المحتاط الذي أتى بصلاتي الظهر والجمعة، فإنّهذا الإجماع إمّا مربوط بأصل الحكم والتكليف أو بالمكلّف به، ولا ريب فيأنّ المحتاط عالم بأصل الحكم الذي هو الوجوب المتعلّق بإحدى الصلاتين،وبتحقّق المكلّف به على كلتا الحالتين.
فلايستفاد من هذا الإجماع ـ على فرض حجّيّته ـ بطلان صلاة من اختارالامتثال الإجمالي مع التمكّن من الامتثال التفصيلي.
كلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام ونقده
الثالث: ما ذكر في كلام الشيخ الأعظم رحمهالله من أنّ الاحتياط بتكرار العبادةيستلزم التشريع المحرّم، لأنّ العباديّة متقوّمة بقصد القربة، فلابدّ للعبد من أنيقصد التقرّب بكلّ من العملين، مع أنّه يعلم أنّ أحدهما لا يكون مقرّباً إليهتعالى.
وفيه أوّلاً: أنّه لو تمّ لعمّ صورة عدم التمكّن من الامتثال التفصيلي أيضاً، فإنّالتشريع حرام في جميع موارده ولا يقبل التخصيص.
وثانياً: أنّ الاحتياط في العبادة ليس بمعنى إتيان كلّ واحد من العملينبالخصوص بعنوان أنّه عبادة ومقرّبة، بل يصدق الاحتياط بإتيان الواجبالواقعي بقصد القربة، وبإتيان كلّ من صلاتي الظهر والجمعة مثلاً برجاء
(صفحه146)
المقرّبيّة.
ويؤيّده كيفيّة الاحتياط في الشبهات البدويّة، فإنّ من احتمل أنّه صارجنباً مثلاً لا يجب عليه الغسل، لكنّه لو أراد الاحتياط لاغتسل بقصد أنّه لوكان جنباً لتقرّب به إليه تعالى(1).
بل المقام أولى بصدق العبادة عليه من الشبهات البدويّة، لعلم المكلّفهاهنا إجمالاً بتحقّق عبادة في الخارج، إمّا بإتيان صلاة الظهر أو بإتيان صلاةالجمعة، بخلاف الشبهات البدويّة.
وثالثاً: سلّمنا وجوب قصد القربة عند إتيان كلّ منهما، لكن حرمة التشريعلا تنافي جواز الاحتياط، فإنّ اجتماعهما نظير اجتماع الأمر والنهي، حيث إنّالنسبة بين التشريع والاحتياط عموم من وجه كالنسبة بين الصلاة والغصب.
بل الجواز في المقام ليس بمعنى الحلّيّة في مقابل الحرمة، بل بمعنى الكفايةـ كما أشرنا إليه ـ فالبحث إنّما هو في كفاية الاحتياط وعدمها في مقام موافقةالأمر بالعبادة، والعقل لا يرى نقصاناً في العبادة المتحقّقة بصلاة الظهر أوالجمعة إذا نوى بكلّ منهما القربة لكي يحكم بعدم الكفاية، غاية الأمر وقوعالتشريع في جنبها بعمل آخر غير مأمور به، لأنّه قصد به القربة أيضاً مع عدمكونه مقرّباً، لكنّه لا يضرّ بالمأمور به الواقعي الذي تحقّق بجميع قيوده التيمنها قصد القربة.
الرابع: أنّ الامتثال الإجمالي ينافي التميز وقصد الوجه المعتبرين فيالعبادات.
توضيح ذلك: أنّ المأمور به لابدّ من أن يكون حين الامتثال متميّزاً منغيره عند المكلّف، وأيضاً لابدّ له من قصد الوجه إمّا بنحو الغاية، كأن ينوي
- (1) وكان صحيحاً لو انكشف أنّه كان جنباً. م ح ـ ى.
ج4
إتيان الصلاة لوجوبها أو استحبابها، أو بنحو الوصف، كأن ينوي إتيان الصلاةالواجبة أو المستحبّة، مع أنّ المأمور به لا يتميّز من غيره عند من اختارالامتثال الإجمالي وأتى بصلاتي الظهر والجمعة، وهو لا يتمكّن أيضاً من قصدالوجه حين العمل، فلابدّ له من الامتثال التفصيلي عند التمكّن.
وفيه أوّلاً: أنّ هذا الدليل ـ على فرض تماميّته ـ لا ينطبق على محلّ النزاع؛لأنّا نبحث في أنّ المكلّف إذا تمكّن من إتيان المأمور به بجميع أجزائه وشرائطهفي ضمن الامتثال الإجمالي فهل يكفيه هذا النوع من الامتثال أم لابدّ له منالإطاعة التفصيليّة، مع أنّ هذا الدليل في مقام نفي إمكان الاحتياط، لكونهمخلاًّ ببعض حدود المأمور به وقيوده.
وثانياً: أنّه يمكن الجواب عن خصوص قصد الوجه بما تقدّم في مسألة قصدالقربة، بأنّ المحتاط يأتي بالعبادة الواجبة الواقعيّة بقصد وجوبها، وحيث إنّهمحتملة الانطباق على كلّ واحدة من صلاتي الظهر والجمعة يأتي بكلّ منهمبقصد احتمال وجوبها بنحو الغاية، كأن ينوي «اُصلّي صلاة الجمعة لاحتمالوجوبها» أو الوصف، كأن ينوي «اُصلّي صلاة الجمعة التي يحتمل أن تكونواجبة» وكذلك في صلاة الظهر.
نعم، يبقى الإشكال في مسألة «التميّز» لعدم تميّز المأمور به عن غيره فيالامتثال الإجمالي. لكنّ الذي يسهّل الأمر أنّه لا دليل على اعتبار التميّز أوقصد الوجه في العبادات(1).
- (1) لا يخفى عليك أنّه بناءً على اعتبارهما في العبادات يجري هاهنا أيضاً المباحث المتقدّمة في بابالتعبّدي والتوصّلي حول قصد القربة بمعنى قصد امتثال الأمر، من أنّه هل يمكن التمسّك بالإطلاقاللفظي لدفع اعتبارهما أو لا؟ وعلى الثاني فلابدّ من التمسّك بذيل الإطلاق المقامي لو كان، وإلفالمرجع هو الاُصول العمليّة، على ما مرّ توضيحه في مبحث التعبّدي والتوصّلي، الصفحة 121 ـ 138من الجزء الثاني. منه مدّ ظلّه.