ج4
الروايات التي استدلّ بها لإثبات الاحتياط
وأمّا الأخبار فطوائف أيضا:
الاُولى: ما دلّ على وجوب الكفّ والسكوت عمّا لا يعلم وردّ علمه إلىاللّهتعالى ورسوله صلىاللهعليهوآله والأئمّة عليهمالسلام وعدم جواز القول فيه بالآراء(1).
- (1) من هذه الأخبار: ما روي عن حمزة بن الطيّار، أنّه عرض على أبيعبداللّه عليهالسلام بعض خطب أبيه حتّى إذبلغ موضعا منها، قال: كفّ واسكت، ثمّ قال: إنّه لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنهوالتثبّت والردّ إلى أئمّة الهدى حتّى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى، قال اللّه تعالى:«فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ». النحل: 43.
ومنها: ما روي عن أحمد بن الحسن الميثمي، عن الرضا عليهالسلام في حديث اختلاف الأحاديث قال: «وملمتجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه، فنحن أولى بذلك، ولا تقولوا فيه بآرائكم، وعليكمبالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون حتّى يأتيكم البيان من عندنا».
ومنها: رواية سليم بن قيس الهلالي في كتابه، أنّ عليّ بن الحسين عليهماالسلام قال لأبان بن أبي عيّاش: «يا أخعبد قيس إن وضح بك أمر فاقبله، وإلاّ فاسكت تسلم، وردّ علمه إلى اللّه، فإنّك أوسع ممّا بين السماءوالأرض».
ومنها: ما روي عن جابر عن أبي جعفر عليهالسلام في وصيّة له لأصحابه، قال: «إذا اشتبه الأمر عليكم فقفوا عندهوردّوه إلينا حتّى نشرح لكم من ذلك ما شرح لنا».
و منها: رواية عبداللّه بن جندب عن الرضا عليهالسلام في حديث قال: «إنّ هؤلاء القوم سنح لهم شيطان اغترّهمبالشبهة ولبّس عليهم أمر دينهم، وأرادوا الهدى من تلقاء أنفسهم، فقالوا: لِمَ ومتى وكيف، فأتاهم الهلكمن مأمن احتياطهم، وذلك بما كسبت أيديهم، وما ربّك بظلاّم للعبيد، ولم يكن ذلك لهم ولا عليهم، بلكان الفرض عليهم والواجب لهم من ذلك الوقوف عند التحيّر وردّ ما جهلوه من ذلك إلى عالمهومستنبطه، لأنّ اللّه يقول في كتابه: «وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَيَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ» يعني آل محمّد، وهم الذين يستنبطون منهم القرآن، ويعرفون الحلال والحرام، وهمالحجّة للّه على خلقه».
راجع للاطّلاع على هذه الأحاديث: وسائل الشيعة 27: 25، كتاب القضاء، الباب 4 من أبواب صفاتالقاضي، الحديث 14، وأيضاً 27: 165، 166، 168 و 171، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفاتالقاضي، الأحاديث 36، 40، 48 و 56. م ح ـ ى.
(صفحه440)
وفيه: أنّ الاُصوليّين لا يفتون بالإباحة الواقعيّة في الشبهات التحريميّةالبدويّة، بل هم يعترفون بكون حكمه الواقعي مجهولاً، ولكنّهم يقولونبإباحتها الظاهريّة باستناد الآيات والروايات، فلا يمكن دعوى أنّهم أفتوا فيذلك بآرائهم من دون الرجوع إلى الكتاب والسنّة.
الطائفة الثانية: الروايات الآمرة بالتوقّف عند الشبهة، وهي على قسمين:
أ ـ ما ذكر فيه صرف الوقوف، بدون ذكر علّته.
ب ـ ما ذكر فيه علّة الوقوف أيضا.
أمّا القسم الأوّل: فلا دلالة له على مراد الأخباريّين، لأنّ بعضها لا يدلّ علىوجوب الوقوف، بل يدلّ على صرف رجحانه، مثل قوله عليهالسلام : «أورع الناسمن وقف عند الشبهة»(1) وقوله عليهالسلام : «لاورع كالوقوف عند الشبهة»(2) فإنّهميدلاّن على أنّ للورع مراتب عديدة وأعلى مراتبه هو الوقوف عند الشبهة،وأصل الورع ـ وهو الاجتناب عن محارم اللّه والإتيان بواجباته ـ وإن كانواجبا، إلاّ أنّ تحصيل هذه المرتبة العالية يكون من الاُمور الراجحة، لالواجبة.
وكذلك ما ذكره أمير المؤمنين عليهالسلام في عهده إلى مالك بن الحارث الأشتر:«ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك... وأوقفهم فيالشبهات»(3).
فإنّه أوّلاً: مربوط باختيار القاضي(4)، وثانيا ليس حكما لزوميّا، بل يكون
- (1) وسائل الشيعة 27: 162، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 29.
- (2) وسائل الشيعة 27: 161، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
- (3) نهج البلاغة: 434، الكتاب 53.
- (4) لا بمسألة الافتاء والاستفتاء. م ح ـ ى.
ج4
من الآداب والمستحبّات(1)، سيّما أنّه عليهالسلام عبّر بـ «الأوقفيّة» لا بأصل «الوقوف»فمفاده أنّه لو كان عندك رجلان واجدان لأصل شرائط القضاء، وكلاهما يقفانعند الشبهة إلاّ أنّ أحدهما أوقف من الآخر، فاختر الأوقف منهما، ولا ريبفي أنّ الأوقفيّة في الشبهات لا يتوقّف عليها أصل مسألة القضاء، كالاجتهادوالعدالة ونحوهما، بل هي من الاُمور الراجحة فيها، فأين هذا ممّا يدّعيهالخصم من لزوم الاحتياط والوقوف عند الشبهات الحكميّة التحريميّة؟!
ومن الأخبار الآمرة بالوقوف عند الشبهة من دون ذكر علّته ما يختصّبالشبهات الموضوعيّة(2) التي ليست محلاًّ للنزاع.
و منها: ما ورد في المسائل الاعتقاديّة ولا ربط لها بالفروع الفقهيّة، مثل مروي عن زرارة عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «لو أنّ العباد إذا جهلوا وقفوا ولميجحدوا لم يكفروا»(3).
والحاصل: أنّه ليس لنا في هذا القسم من الأخبار الآمرة بالوقوف عندالشبهة رواية واحدة دالّة على وجوب الوقوف في الشبهات الحكميّة التحريميّةمن الفروع الفقهيّة، فإنّ بعضها لا يدلّ على الوجوب، بل يدلّ على الرجحان،وبعضها الآخر يختصّ بالشبهات الموضوعيّة، وبعضها الثالث ورد في الاُصولالاعتقاديّة.
وأمّا القسم الثاني ـ أعني ما أمر بالتوقّف مع بيان علّته ـ فمثل رواية
- (1) نعم، يمكن أن يقال: وقوف القاضي عند الشبهات في المرافعات يكون من الواجبات، لكنّه مربوطبمسألة القضاء لا الإفتاء، على أنّه من الشبهات الموضوعيّة الخارجة عن محلّ النزاع. م ح ـ ى.
- (2) مثل ما ورد في كتاب أميرالمؤمنين عليهالسلام إلى عثمان بن حنيف من قوله عليهالسلام : «فانظر إلى ما تقضمه من هذالمقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه». نهج البلاغة: 416، الكتاب 45.م ح ـ ى.
- (3) وسائل الشيعة 27: 158، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 11.
(صفحه442)
أبيسعيد الزهري عن أبيجعفر عليهالسلام قال: «الوقوف عند الشبهة خير منالاقتحام في الهلكة»(1).
وتقريب الاستدلال بمثل هذا الحديث أنّ كلمة «خير» للتعيّن، لا للأفضليّة،والمراد بـ «الهلكة» هو العقاب الاُخروي، فالحديث يدلّ على أنّالأمر دائر بين الوقوف عند الشبهة وبين الاستحقاق للعذاب الاُخروي،والوقوف عند الشبهة لأجل التحذّر والتجنّب من العقوبة الاُخرويّةأمر متعيّن.
وفيه: أنّ ارتكاب الشبهة لا يستلزم الهلكة والعقوبة إلاّ في الشبهاتالمحصورة من أطراف العلم الإجمالي، أو البدويّة قبل الفحص، وأمّا الشبهاتالبدويّة بعد الفحص واليأس عن الظفر بالدليل، فارتكابها باستناد ما تقدّم منالترخيص في الكتاب والسنّة ودليل العقل لا يستلزم عقوبةً أصلاً.
فمورد الحديث ما إذا دار الأمر بين الوقوف عند الشبهة وبين الاقتحام فيالهلكة، وهو ينحصر في تينك الصورتين، ولا يعمّ الشكّ في التكليف بعدالفحص واليأس عن الدليل.
هذا، وسيأتي(2) في ذيل الطائفة الثالثة من الأخبار بعض المناقشات العامّةالواردة على الاستدلال بها وبهذه الطائفة الثانية، فانتظر.
الطائفة الثالثة: الروايات الآمرة بالاحتياط:
منها: رواية أبيهاشم داود بن القاسم الجعفري، عن الرضا عليهالسلام أنّأميرالمؤمنين عليهالسلام قال لكميل بن زياد:«أخوك دينك، فاحتط لدينك بمشئت»(3).
- (1) وسائل الشيعة 27: 154، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
ج4
وفيه: أنّ إيكال الاحتياط بمشيّة المكلّف قرينة على كونه أمرا راجحا، لواجبا، إذ لا يصحّ إيكال الواجبات ـ كالصلوات اليوميّة وصيام شهررمضان ـ بمشيّة المكلّف.
ومنها: رواية سليمان بن داود، عن عبداللّه بن وضّاح أنّه كتب إلى العبدالصالح عليهالسلام يسأله عن وقت المغرب والإفطار، فكتب إليه: «أرى لك أن تنتظرحتّى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك»(1).
وفيه: أنّه لا يليق بالإمام المعصوم العالم بالأحكام الواقعيّة أن يجيببالاحتياط، فلابدّ من حمل الحديث على التقيّة، فإنّ العامّة يقولون بدخولوقت المغرب والإفطار باستتار قرص الشمس، والإمام عليهالسلام لم يتمكّن من بيانالحكم الواقعي ـ وهو دخول الوقت بذهاب الحمرة المشرقيّة، كما عليهمشهور فقهاء الشيعة ـ بنحو البتّ والجزم، سيّما في الجواب الكتبي الذي يمكنأن يطّلع عليه غيرالشيعة، فالتجأ الإمام عليهالسلام إلى بيان الحكم الواقعي في قالبالاحتياط، فإنّ الاحتياط أمر مطلوب على كلّ حال عند الشيعة والعامّة.
فقوله عليهالسلام : «تأخذ بالحائطة لدينك» قالب صوري لبيان الحكم الواقعي،وليس حكما ظاهريّا مجعولاً في مورد الشكّ في الحكم الواقعي.
ومنها: رواية عبدالرحمان بن الحجّاج قال: سألت أباالحسن عليهالسلام عنرجلين أصابا صيدا وهما محرمان، الجزاء بينهما أو على كلّ واحدٍ منهما جزاء؟قال: «لا، بل عليهما أن يجزي كلّ واحد منهما الصيد» قلت: إنّ بعض أصحابنسألني عن ذلك فلمأدر ما عليه، فقال: «إذا أصبتم مثل هذا فلمتدروا فعليكمبالاحتياط حتّى تسألوا عنه فتعلموا»(2).
- (1) وسائل الشيعة 27: 167، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 46.
- (2) وسائل الشيعة 27: 166، كتاب القضاء، الباب 12 من أبواب صفات القاضي، الحديث 42.