ج4
الوجوديّة أو العدميّة حاكمة على أصالة البرائة دائماً.
فإنّا إذا شككنا في حرمة شرب التتن مثلاً، فإن كان له حكم معلوم ـ منالحرمة أو الحلّيّة ـ في الشريعة السابقة، يستصحب، وإن لم يتبيّن لنا حكمه فيتلك الشريعة ولم يكن لنا طريق إلى استكشافه، نشكّ حينئذٍ في جعل الحرمةله إمضاءً أو تأسيساً في الشريعة الإسلاميّة، فيستصحب عدمه، ولا تصلالنوبة إلى أصالة البرائة والحلّيّة.
اللّهُمَّ إلاّ أن يكون الموضوع من الاُمور المستحدثة، كما إذا فرض حدوثالتتن بعد الشرائع السابقة، فلم يكن له حكم قبل الإسلام.
لكنّه أيضاً محلّ إشكال، لأنّ الإسلام ـ بلحاظ أبديّته واستمراره ـ عيّنأحكام جميع الموضوعات إلى يوم القيامة، وإن كانت من الموضوعات التي لمتكن في صدر الإسلام، بل حدثت بعد نزول القرآن، وعلى هذا يمكناستصحاب عدم جعل الحرمة لشرب التتن.
اللّهُمَّ إلاّ أن يقال بعدم جريان الاستصحابات العدميّة، كما عليه بعضالمحقّقين، وأمّا بناءً على المشهور ـ من جريانها كالاستصحابات الوجوديّة فلم يبق لنا مورد لا يجري فيه استصحاب موافق أو مخالف لأصالة البرائة.
البحث حول أصالة عدم قابليّة التذكية
ثمّ لو شككنا في قابليّة حيوان للتذكية بنحو الشبهة الحكميّة ـ كما إذا تولّدمن حيوانين أحدهما قابل لها دون الآخر، حيوان ثالث لا يدخل تحت عنوانأحدهما ـ فهل تجري أصالة الحلّيّة في لحمه وأصالة الطهارة في أجزاء بدنه إذذبح مع الشرائط المعتبرة في الذبح الشرعي، أم لا؟
ربما يقال: لا، وذلك لأنّ الشكّ في الحلّيّة والطهارة وعدمهما هاهنا مسبّب
(صفحه484)
عن الشكّ في كونه قابلاً للتذكية وعدمه، فيستصحب عدم قابليّته لها(1) ويحكمبحرمة لحمه ونجاسة أجزائه بعد إجراء صورة التذكية عليه.
ولا يخفى عليك أنّ صحّة الاستصحاب تتوقّف على أركان ثلاثة تستفادمن قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشك»:
أ ـ أن يكون للمستصحب حالة سابقة متيقّنة، ب ـ أن يكون له حالةلاحقة مشكوكة، ج ـ أن تتّحد القضيّتان من غير جهة الزمان.
فهل هذه الأركان موجودة في المقام أم لا؟
كلام المحقّق الحائري رحمهالله في المسألة
لقد أصرّ المحقّق الحائري رحمهالله على جريان هذا الاستصحاب، لتماميّة أركانه،وحاصل مرامه: أنّ المحقّقين قد قسّموا العرض إلى عارض الوجود وعارضالماهيّة، وكلاًّ منهما إلى اللازم والمفارق، فصارت الأقسام أربعة، وإليكتوضيحها بالمثال، فنقول: الزوجيّة عارضة لماهيّة الأربعة على وجه اللزوم،كما أنّ عروض الوجود للماهيّة يعدّ من الأعراض المفارقة لها، وأمّا القسمانالآخران أعني عارض الوجود اللازم، كموجوديّة الوجود بالمعنى المصدريونورانيّته ومنشأيّته للآثار، وعارضه المفارق كالسواد والبياض بالنسبة إلىالجسم.
وأمّا «القابليّة» فلا شكّ في أنّها من العوارض اللازمة للوجود أو الموجود،وليست من العوارض اللازمة للماهيّة، نعم، يمكن أن يقال: إنّها من العوارض
- (1) ونظيره استصحاب عدم قرشيّة المرأة، فيحكم بصيرورتها يائسة عند بلوغها خمسين سنة. منه مدّ ظلّهتوضيحاً لكلام هذا القائل.
لكن بين المثالين فرق، وهو أنّ الشكّ في المثال السابق من مصاديق الشبهة الحكميّة، وفي قرشيّة المرأةمن قبيل الشبهة الموضوعيّة، لكنّ الظاهر عدم تنظير الاُستاذ «مدّظلّه» من جميع الجهات. م ح ـ ى.
ج4
المفارقة بالنسبة إلى الماهيّة لكن بتبع الوجود، حيث إنّه يفارق عن الماهيّة،فتفارقها، كما هو الشأن في عامّة العوارض الوجوديّة.
إذا عرفت هذا فيمكن أن يقرّر الأصل هكذا: إنّ القابليّة، كالقرشيّة، منعوارض الوجود، فإنّ القرشيّة عبارة عن الانتساب في الوجود الخارجي إلىالقريش، كما أنّ القابليّة عبارة عن خصوصيّة في الحيوان بها يصلح لورودالتذكية عليه، وبها يترتّب الحلّيّة والطهارة.
وعليه فلنا أن نشير إلى ماهيّة المرأة المشكوك فيها، ونقول: إنّ ماهيّة تلكالمرأة قبل وجودها لم تكن متّصفة بالقرشيّة، ولكن علمنا انتقاض اليقين بعدموجودها إلى العلم بوجودها، ولكن نشكّ في انتقاض العدم في ناحية«القرشيّة».
وهكذا يمكن أن يقال في ناحية «القابليّة» فنقول: إنّ الحيوان الكذائيـ مشيراً إلى ماهيّته ـ لم يكن قابلاً للتذكية قبل وجوده، ونشكّ في أنّه حينتلبّس بالوجود هل عرض له «القابليّة» أو لا؟ فالأصل عدم عروضها.
نعم، لو كان الموضوع هو الوجود أو كانت «القابليّة» من لوازم الماهيّة،لم يكن وجه لهذا الاستصحاب، لعدم الحالة السابقة، لكنّ الموضوع هوالماهيّة، والقابليّة عارضة لها بعد وجودها، فهذه الماهيّة قبل تحقّقها لمتكن متّصفة بـ «القابليّة» بنحو السالبة المحصّلة، والأصل بقائها على مهي عليه، ولو صحّ جريانه لأغنانا عن استصحاب عدم التذكية، لحكومتهعليه حكومة الأصل السببي على المسبّبي، ويكون حاكماً على الاُصولالحكميّة عامّة(1).
- (1) لم نعثر عليه في «درر الفوائد». نعم، نقله الإمام رحمهالله في تهذيب الاُصول 3: 128، وفي أنوار الهداية2: 100. م ح ـ ى.
(صفحه486)
هذا ما أفاده المحقّق الحائري رحمهالله لإثبات جريان استصحاب عدم قابليّةالتذكية وعدم قرشيّة المرأة.
نقد كلام المحقّق الحائري رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّه فاقد للحالة السابقة المتيقّنة.
وثانياً: أنّه ـ على فرض تسليم ما أفاده هذا المحقّق الكبير لإثبات الحالةالسابقة ـ أصل مثبت في مسألة استصحاب عدم قابليّة التذكية.
أمّا كونه مثبتاً(1): فلأنّ من شرائط جريان الاستصحاب أن يكونالمستصحب حكماً شرعيّاً أو موضوعاً ذا أثر شرعي، والمستصحب في ما نحنفيه ليس كذلك، أمّا عدم كونه حكماً شرعيّاً فواضح، وأمّا عدم كونهموضوعاً ذا أثر شرعي، فلأنّ الأثر الشرعي ـ كالحرمة والنجاسة ـ ترتّب فيالشريعة على «غير المذكّى» لا على «غير القابل للتذكية» كما أنّ «الميتة» فيقوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ»(2) فسرّت في كلام بعضهم بـ «غيرالمذكّى» و«غيرالمذكّى» هو الحيوان الذي لم يجتمع فيه الخصوصيّات المعتبرةفي التذكية: من فري الأوداج الأربعة، وكون الذابح مسلماً، والتسمية حينالذبح، وكون الحيوان ممّا يقبل التذكية، وغيرها.
فلا ريب في دخل «القابليّة» في التذكية، إمّا بدخولها في ماهيّتها، كسائرالاُمور التي تعتبر فيها، وتكون التذكية مركّبة أو متحصّلة أو منتزعة عنها، أوبكونها أمراً خارجاً عنها، مؤثّراً في تأثيرها، بحيث لو لم تكن «القابليّة» لمتتحقّق التذكية، وإن اجتمعت سائر خصوصيّاتها المعتبرة.
- (1) قدّمه «مدّ ظلّه» في مقام التوضيح، لأجل اختصار بحثه، وإلاّ كان الإشكال الأوّل ـ لأجل ردّه أحد أركانالاستصحاب ـ أهمّ منه. م ح ـ ى.
ج4
فـ «القابليّة» جزء(1) للتذكية، والتعبّد بانتفاء الجزء يلازمه عقلاً انتفاءالكلّ، والميزان في حكومة الأصل السببي على المسبّبي كون الأصل في ناحيةالسبب منقّحاً للموضوع بالنسبة إلى الكبرى الشرعيّة، ولا يتمّ ذلك إلاّ إذكان الترتّب بينهما شرعيّاً لا عقليّاً.
فظهر أنّ استصحاب العدم الأزلي لا يجري في المقام، ولو فرض صحّته فيحدّ نفسه.
فلا مانع من إجراء أصالتي الحلّيّة والطهارة في لحم الحيوان الذي شكّ فيقابليّته وعدم قابليّته للتذكية، لعدم أصل حاكم عليهما.
وأمّا عدم كونه ذا حالة سابقة متيقّنة: فيتوقّف إثباته على بيان ما يتعقّل منصور أخذ الأمر العدمي في موضوع الدليل الشرعي(2)، فنقول:
الوجوه المتصوّرة في القيد العدمي المأخوذ في الدليل الشرعي ستّة:
1ـ أن يكون بنحو السالبة المحصّلة البسيطة التي يعبّر عنها بـ «ليس التامّة»مثل «ليس زيد» أو «زيد ليس بموجود» فمفادها سلبالموضوع وعدمه رأساً.
2ـ أن يكون بصورة السالبة المحصّلة المركّبة التي يعبّر عنها بـ «ليسالناقصة» وهي على نوعين:
أحدهما: أن يكون الموضوع أمراً محقّقاً يسلب عنه المحمول، مثل «زيدليس بقائم» و«هذا الحيوان ليس قابلاً للتذكية» و«هذه المرأة ليست قرشيّة».
ثانيهما: أن يكون السلب بسلب الموضوع، وفي هذا النوع لا يدخل حرف
- (1) هذا مبنيّ على دخلها في ماهيّة التذكية بأحد الأنحاء الثلاثة المتقدّمة، وأمّا بناءً على كونها أمراً خارجعنها، مؤثّراً في تأثيرها، فهي شرط لها، لكن لا فرق بينهما في كون الأصل مثبتاً، لأنّ التعبّد بانتفاء الشرطأيضاً يلازمه عقلاً انتفاء المشروط. م ح ـ ى.
- (2) كما إذا دلّ الدليل الشرعي على أنّ «غير المذكّى» أو «غير القابل للتذكية» من الحيوان حرام ونجس، وكمإذا دلّ على أنّ «غير القرشيّة» من المرأة ترى الحمرة إلى خمسين سنة. م ح ـ ى.