(صفحه76)
فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ *وأمّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالاْءَرْضُ إِلاَّ مَشَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ»(1).
وبيّن في سورة «النازعات» ما هو سبب دخول الجحيم والجنّة بقوله:«فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْخَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى»(2).
فهذه الآيات تفسّر السعادة والشقاوة المتقدّمتين في تلك الآيات، فكأنّهتقول: إنّ للشقيّ الذي حكمنا في سورة «هود» بدخوله النار رذيلتين:أ ـ الطغيان، ب ـ اختيار الحياة الدنيا، وللسعيد الذي حكمنا في تلك السورةبدخوله الجنّة فضيلتين: أ ـ خوف مقام ربّه، ب ـ نهي النفس عن الهوى(3).
ولا يخفى أنّ إسناد «الطغيان» و«الإيثار» إلى الإنسان المستحقّ للجحيم،وإسناد «الخوف» و«النهي» إلى الإنسان المستحق للجنّة بصيغة الفعل(4) يشعربأنّ ارتكاب هذه الأوصاف ناشٍ عن الاختيار والإرادة، سيّما أنّ لفظ «آثر»يكون بمعنى «اختار».
كيفيّة اتّصاف الإنسان بالسعادة والشقاوة
إذا عرفت هذا فلا يخفى عليك أنّه لا يصحّ دعوى كون السعادة أو الشقاوةأمراً ذاتيّاً للإنسان بعنوان تمام الماهيّة أو جزئها، وهذا أمر ضروري واضحلمن راجع تعريف «الإنسان» في الكتب المنطقيّة والفلسفيّة.
- (3) فـ «إنّ النفس لأمّارة بالسوء» كما قال في سورة «يوسف»، الآية 53. منه مدّ ظلّه.
- (4) حيث قال: «طغى، آثر، خاف، نهى» بصيغة الفعل الماضي. م ح ـ ى.
ج4
وكذلك لا يصحّ دعوى كونهما من لوازم ماهيّته، لأنّ لازم الماهيّة ما يلزمتصوّره من تصوّر الملزوم(1) أوّلاً، ولا يتوقّف على وجود الملزوم خارجاً أوذهناً ثانياً، فإنّ الزوجيّة لازمة للأربعة، ولو لم تتلبّس الأربعة بلباس الوجودالذهني ولا الخارجي.
ولا ريب في أنّه لا يلزم من تصوّر «الإنسان» تصوّر «السعادة» أو«الشقاوة»، بل الشرط الثاني للازم الماهيّة أيضاً مفقود في المقام، إذ لا يصدق«السعيد» و«الشقيّ» إلاّ على الإنسان الموجود في الخارج، بل لابدّ في صدقهمعليه شرعاً من قيود اُخر أيضاً، مثل كونه بالغاً عاقلاً عاملاً بالتكاليفالشرعيّة أو تاركاً لها، ليتحقّق ملاك السعادة والشقاوة الشرعيّة ويستحقّالمكلّف دخول النار أو الجنّة، وهذا ما يقتضيه العقل والكتاب والسنّة كملا يخفى.
فإذا كانت السعادة والشقاوة من عوارض وجود الإنسان صحّ السؤال عنعلّة تحقّقهما، كما صحّ السؤال عن علّة وجود نفس الإنسان.
والعجب من المحقّق الخراساني رحمهالله حيث شبّه السعادة والشقاوة بأجزاءالماهيّة، كناطقيّة الإنسان، وناهقيّة الحمار(2)، مع أنّك عرفت بطلان القولبكونهما من لوازم ماهيّة الإنسان فضلاً عن جزئيّتهما لها.
البحث حول حديث «السعيد سعيد في بطن اُمّه»
ولعلّ الذي دعاه إلى هذا الخطأ العظيم ما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال:«السعيد من سعد في بطن اُمّه والشقيّ من شقي في بطن اُمّه»(3).
- (1) أو يلزم من تصورهما والنسبة بينهما الجزم باللزوم. م ح ـ ى.
(صفحه78)
وفيه أوّلاً: أنّ نفس هذه الرواية تشهد على خلاف ما ذهب إليه صاحبالكفاية، لأنّها أناطت السعادة والشقاوة ببطن الاُمّ الذي هو أوّل مراحلالوجود الخارجي للإنسان، مع أنّهما لو كانتا من أجزاء ماهيّته أو من لوازمهلثبتتا له وإن لم يوجد في الذهن ولا في الخارج كما عرفت.
وثانياً: أنّ لهذه الرواية معنى آخر، وهو أنّا لو علمنا عاقبة اُمور الخلائقوتبيّن لنا مستقبل كلّ شخص من حيث إنّه سيصير عالماً نافعاً مطيعاً للّهورسوله مثلاً، أو منافقاً قاتلاً مستهزءاً باللّه ورسوله لحكمنا من أوّل أيّامصباوتهم بسعادة الأوّل وكونه من أهل الجنّة وشقاوة الثاني وكونه من أهلالجحيم، وهذا ما يشهد به العقلاء، وبه يفسّر الحديث النبوي المذكور.
ويؤيّده أنّ أهل العراق كانوا ينفرون من عمر بن سعد قبل وقعة كربلاءبسنين كثيرة، لعلمهم بأنّه يقتل الحسين عليهالسلام (1) في المستقبل، كما يستفاد ذلك ممّروى عن سالم بن أبي حفصة أنّه قال: قال عمر بن سعد للحسين عليهالسلام : يا أبعبداللّه إنّ قبلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك، فقال له الحسين عليهالسلام : «إنّهمليسوا بسفهاء، ولكنّهم حلماء(2)، أما إنّه يقرّ عيني ألاّ تأكل برّ العراق بعدي إلقليلاً»(3).
وقد فسّر كون السعادة والشقاوة في بطن الاُمّ بما ذكرناه أيضاً في ما رواهمحمد بن أبي عمير عن الإمام الكاظم عليهالسلام فإنّه قال: سألت أبا الحسن موسىبن جعفر عليهماالسلام عن معنى قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : «الشقيّ من شقي في بطن اُمّه
- (1) كنز العمّال 1: 107، الحديث 491، والتوحيد ـ للشيخ الصدوق ـ : 356، الباب 58، الحديث 3.
- (2) لعلّ علمهم بهذا ناشٍ عمّا روي ـ في بحار الأنوار 41: 313 ـ وهو قول علي عليهالسلام خطاباً لسعد بن أبيوقّاص في أيّام صباوة ابنه عمر: «وإنّ في بيتك لسخلاً يقتل ابن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ». منه مدّ ظلّه.
- (3) أي إنّهم حلماء حيث لا يشتدّون عليك ولا يعاقبونك لأجل ما سترتكب من تلك الجناية الهائلةالعظيمة. منه مدّ ظلّه.
- (4) الإرشاد ـ للشيخ المفيد ـ 2: 132، وكشف الغمّة 2: 9.
ج4
والسعيد من سعد في بطن اُمّه» فقال: «الشقيّ من علم اللّه وهو في بطن اُمّه أنّهسيعمل أعمال الأشقياء، والسعيد من علم اللّه وهو في بطن اُمّه أنّه سيعملأعمال السعداء»(1).
فهذا الخبر أيضاً فسّر الحديث النبوي بما ذكرناه، فلا يمكن القول بكونالسعادة والشقاوة من ذاتيّات الإنسان أو من لوازم ذاته باستناد هذا الحديثالشريف.
إن قلت: نعم، الكفر والإيمان والإطاعة والعصيان لا تكون من ذاتيّات منيتّصف بها ولا من لوازم ذاته، بل هي من آثار وجوده، لكنّها مع ذلك تتحقّقبلا اختيار، فإنّ عوارض الوجود بعضها اضطراريّة، كطول القامة وقصرها،وبياض الجلد وسواده، ونحوها، فالسعادة والشقاوة أيضاً من العوارضالاضطراريّة لوجود الإنسان خارجاً.
قلت: القياس مع الفارق بحكم الوجدان، فإنّ مثل الطول والقصر والبياضوالسواد من الأعراض الاضطراريّة، أوصاف ثابتة للإنسان، بخلاف مثلالكفر والإيمان والإطاعة والعصيان، فإنّ للإنسان حالات متبدّلة في بابالسعادة والشقاوة، فربّ إنسان مؤمن مطيع صار كافراً عاصياً وبالعكس، بلقد تكون لشخص واحد في طول عمره حالات متبدّلة كثيرة، وهذا ما يشهدبه الوجدان المؤيّد بالقرآن حينما يقول: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّكَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرا لَمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً»(2).
على أنّ ما ذكرناه في باب الإرادة ـ من أنّها أمر اختياري مسبوق بمبادٍاختياريّة ـ يرشدنا إلى أنّ للإنسان اختيار الكفر والإيمان، لا أنّه مجبور على
- (1) التوحيد ـ للشيخ الصدوق ـ : 356، الباب 58، الحديث 3.
(صفحه80)
الاتّصاف بأحدهما.
الكلام حول مشيّة اللّه تعالى
نعم، إنّ الإنسان غير مستقلّ في أفعاله ـ خلافاً لما ذهب إليه المفوّضة ـ لكنعدم الاستقلال ليس بمعنى الجبر والاضطرار، فأعمالنا منسوبة إلينا، متحقّقةبإرادتنا، لكن قوّاتنا المصروفة فيها موهوبة من عند اللّه تعالى، بحيث لوأمسك عن إعطائها لحظة لما قدرنا على شيء أصلاً «بحول اللّه وقوّته أقوموأقعد»(1)، «وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى»(2)، «وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْيَشَاءَ اللّهُ»(3).
فنحن نقوم ونقعد، ورسول اللّه صلىاللهعليهوآله رمى، ولكن كلّ ذلك يكون بحول اللّهوقوّته الموهوبة من عنده سبحانه، ونحن وإن لم نكن نشاء إلاّ أن يشاء اللّه، إلأنّه تعالى إذا شاء وأوقد نور القوّة والقدرة في وجودنا فنحن نشاء ونختار، لأنّ أعمالنا تتحقّق بالجبر والاضطرار، فاللّه سبحانه وتعالى شاء أن نفعلبالاختيار، فلو كنّا في أفعالنا مضطرّين لكان الاُمور حينئذٍ على خلاف مشيّةاللّه سبحانه، لا فيما إذا كنّا مختارين، فإنّه تعالى بيّن لنا طريق الهداية والضلالة،وأعطانا قوّة السلوك والحركة، وجعلنا حرّاً في اختيار أيّهما نشاء «إِنَّا هَدَيْنَاهُالسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وأمّا كَفُورا»(4).
العصمة المتحقّقة بإرادة اللّه تعالى هل تنافي الاختيار أم لا؟
- (1) وسائل الشيعة 5: 465، كتاب الصلاة، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 9.