ج4
وتقريره، وإذا وجب علينا التمسّك بها بمقتضى «حديث الثقلين» فإن علمنا بهفلا كلام، وإن لم نعلم بها تصل النوبة إلى الظنّ(1) ويجب التمسّك بما يظنّ كونهسنّة.
لكن يرد عليه أيضاً أنّه لا دليل على شمول «حديث الثقلين» لما يظنّ كونهمن السنّة، إذ من المحتمل اختصاصه بما علم كونه سنّة، كقول المعصوم عليهالسلام المسموع منه بلا واسطة، أو المحكيّ بدليل قطعي، كالخبر المتواتر أو المحفوفبالقرينة القطعيّة، وأمّا ما ظنّ كونه سنّة، كما إذا أخبر زرارة مثلاً بأنّه عليهالسلام قال:«صلاة الجمعة واجبة» فلا يعمّه «حديث الثقلين» سيّما أنّه جعل العترة قرينلكتاب اللّه الذي لا يثبت إلاّ بالتواتر.
على أنّ حجّيّة الخبر الواحد لا تختصّ بما إذا أفاد الظنّ الشخصي كما هوظاهر هذا الدليل.
إثبات حجّيّة الخبر الواحد ببناء العقلاء
إنّ أهمّ ما يدلّ على حجّيّة الخبر الواحد بناء العقلاء، وهو من الوجوهالعقليّة؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بموافقة الشارع لبناء العقلاء الذي كان بمرأىومنظر منه ولم يردع عنه.
ولا يخفى أنّ جواز التمسّك ببناء العقلاء لإثبات شيء شرعاً يتوقّف علىاُمور:
أ ـ أن يحرز أصل بنائهم على ذلك الشيء.
ب ـ أن لا يكون ذلك الشيء من المسائل المستحدثة بعد عصر
- (1) وبعبارة اُخرى: يجب التمسّك بالسنّة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره بمقتضى «حديث الثقلين»وكون الشيء قول المعصوم مثلاً تارةً معلومٌ لنا، كما إذا سمعنا قوله عليهالسلام مباشرةً، واُخرى مظنوناً، كما إذأخبر الثقة بأنّه عليهالسلام قال: كذا. م ح ـ ى.
(صفحه334)
المعصومين عليهمالسلام .
ج ـ أن يكون بنائهم عليه بمرأى ومنظر من الشارع.
د ـ أن لا يردع الشارع عنه.
فإذا ثبتت هذه الاُمور كشفت عن إمضاء بنائهم من قبل الشارع ورضاهباستخدامه في الشرعيّات.
ثمّ إنّه لا إشكال ولا كلام في ثبوت غير الأخير من هذه الاُمور الأربعةبالنسبة إلى العمل بخبر الثقة، فإنّ العقلاء يرتّبون الأثر دائماً على خبرمن يثقون به في اُمورهم الفرديّة والاجتماعيّة، وكان ذلك أمراً مستمرّاً في جميعالأعصار في زمن المعصومين عليهمالسلام وقبله وبعده، وكان من الاُمور الرائجةالشائعة التي لا تكاد تخفى على الشارع المقدّس.
إنّما الكلام في الأمر الرابع، وهو أنّ الشارع هل ردع عن العمل بخبر الواحدولو كان ثقةً أم لا؟
الحقّ هو الثاني؛ إذ لا دليل على الردع، ولو كان لوصل إلينا؛ لأنّ العملبخبر الثقة كان من الاُمور المتداولة بين العقلاء كثيراً، فكانت الدواعي على نقلالردع عن مثله كثيرة، فلو كان لبان.
إن قلت: نعم، لم يمنع الشارع عن العمل بخبر الثقة بالخصوص، لكن يكفيللرادعيّة عمومات النهي عن غير العلم، كقوله تعالى: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَبِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً»(1)، لما تقدّم منعدم اختصاص الآية بالمسائل الاعتقاديّة(2)، وعدم لزوم الدور من رادعيّتهعن السيرة العقلائيّة(3).
ج4
قلت: بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة يكون من الاُمور المهمّة الرائجة فيجميع أبعاد حياتهم الفرديّة والاجتماعيّة، وفي مثله لا يكفي الردع بنحو العموم،بل لابدّ من الردع الخاصّ الصريح، كما في مثل القياس(1) والربا(2)، فلو لميرتض الشارع بالعمل بخبر الثقة في الشرعيّات لخطّأ طريقتهم صريحاً.
إن قلت: سلّمنا عدم تحقّق ردع خاصّ وعدم كفاية العمومات للرادعيّة فيالمقام، لكنّ الاستدلال ببناء العقلاء يحتاج إلى إمضائه، كما في مثل «أَحَلَّ اللّهُالْبَيْعَ».
قلت: أوّلاً: يكفي في الإمضاء سكوت الشارع وعدم ردعه عمّا فعلبحضرته.
وأمّا مثل «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ» فهو إمضاء لفظي مؤكّد للإمضاء السكوتي.
وثانياً: عندنا أخبار كثيرة متواترة معنىً في تأييد سيرة العقلاء على العملبخبر الثقة، منها: ما تقدّم(3) من الطوائف الأربع المنقولة عن رسائل الشيخ رحمهالله ،ومنها: طائفة اُخرى مشتملة على روايات كثيرة أشار إليها بعض الأكابر،وهي ما ورد في مقام تخطئة من ادّعى الفقاهة من المخالفين، مثل ما روي عنأبي عبداللّه عليهالسلام أنّه قال لابن أبي ليلى: «أتقضي بين الناس يا عبد الرحمان؟قال: نعم يابن رسول اللّه، قال: تنزع مالاً من يد هذا فتُعطيه هذا وتحدّ هذوتحبس هذا وتنزع امرأة هذا فتُعطيها هذا؟ قال: نعم، قال: بماذا تفعل ذلككلّه؟ قال: بكتاب اللّه، قال: أكلّ شيء تفعله تجده في كتاب اللّه؟ قال: لا، قال:
- (2) كما روي عن أبان بن تغلب عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «إنّ السنّة لا تقاس، ألا ترى أنّ امرأة تقضي صومهولا تقضي صلاتها، يا أبان: إنّ السنّة إذا قيست محق الدين». الكافي 1: 57، كتاب فضل العلم، باب البدعوالرأي والمقائيس، الحديث 15.
- (3) كما قال اللّه تعالى: «أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا» البقرة: 275.
(صفحه336)
فما لم تجده في كتاب اللّه فمن أين تأخذه؟ قال: من سنّة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، قال:وكلّ شيءٍ تجده في كتاب اللّه وفي سنّة رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ؟ قال: لا، وما لم أجدهفيهما أخذته من أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، قال: عن أيّهم تأخذ؟ قال: عن أبيبكر وعمر وعثمان وعليّ وطلحة والزبير ـ وعدَّد رجالاً ـ قال: فكلّ شيءتأخذه عنهم تجدهم قد أجمعوا عليه؟ قال: لا، قال: فإذا اختلفوا فبقول مَنْتأخذ منهم؟ قال: بقول من رأيت أن آخذ منهم أخذت، قال: ولا تُبالي أنتخالف الباقين؟ قال: لا، قال: فهل تخالف عليّاً عليهالسلام فيما بلغك أنّه قضى به؟ قال:ربما خالفته إلى غيره منهم، فسكت أبو عبداللّه عليهالسلام ساعةً ينكت في الأرض(1)،ثمّ رفع رأسه فقال: يا عبد الرحمان فما تقول يوم القيامة إذا أخذ رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بيدك وواقفك بين يدي اللّه وقال: أي ربِّ إنّ هذا بلغه عنّي قولٌ فخالفه؟ قال:وأين خالفت قوله يابن رسول اللّه؟ قال: ألم يبلغك قوله صلىاللهعليهوآله لأصحابه: أقضاكمعليّ عليهالسلام ؟ قال: نعم، قال: فإذا خالفت قوله ألم تخالف قول رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ؟فاصفرّ وجه ابن أبي ليلى حتّى عاد كالاُتْرُجّة(2) ولم يُحِرْ(3) جواباً»(4).
ولاريب في أنّ ابن أبي ليلى لم يكن في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآله أو في عصر الصحابة،فأراد من العمل بسنّة رسول اللّه وأقوال الصحابة، العمل بالروايات الناقلة لها،ومع ذلك لم يخطّئه الإمام عليهالسلام في هذا المبنى، بل خطّأه لأجل مخالفته عليّاً عليهالسلام فيمبلغه أنّه قضى به.
وهل هذا إلاّ إمضاء عملي لبناء العقلاء على العمل بالخبر الواحد؟
بل كثير من الأحكام الصادرة من الأئمّة عليهمالسلام لم تكن ممّا يبتلي به الراوي،
- (1) نكت الأرض بقضيب أو بإصبعه: ضربها به حال التفكّر فأثّر فيها. م ح ـ ى.
- (2) فاكهة معروفة، يُقال لها بالفارسيّة: بالنگ. م ح ـ ى.
- (3) أحار الجواب: ردّه، ومنه «لم يُحِرْ جواباً» أي لم يردّ جواباً. م ح ـ ى.
- (4) مستدرك الوسائل 17: 241، كتاب القضاء، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.
ج4
فلو لم يكن الخبر الواحد حجّة حتّى فيما إذا كان راويه في أعلى درجاتالوثاقة، لكان اهتمام الأئمّة عليهمالسلام ببيان هذا النوع من الأحكام واهتمام أصحابهمبثبتها وضبطها أمراً لغواً بلا طائل، إذ قلّما يوجد خبر متواتر أو محفوف بقرينةقطعيّة، بل قلّما يوجد خبر منقول إلينا بواسطة البيّنة المركّبة من إثنين، فكانكثير من أسئلة أصحاب الأئمّة وأجوبتهم عليهمالسلام لأجل ثبتها في الكتب ونقلهولو بواسطة راوٍ واحد إلى مسلمي الأعصار المتأخِّرة.
فلاريب في أنّ هذا إمضاء عملي لبناء العقلاء على العمل بخبر الثقة، ولملزم لأن يكون الإمضاء في قالب اللفظ، بل يكفي فيه العمل الحاكي عنه.
والحاصل: أنّ سيرة العقلاء أهمّ دليل على حجّيّة خبر الثقة.
كفاية الوثاقة النوعيّة في الراوي
ثمّ هل يعتبر ثبوت وثاقة الراوي عند شخص العامل بالخبر، أو يكفيوثاقته عند العرف وأهل الخبرة(1) وإن لم يعلم شخصه بها؟
الظاهر هو الثاني، فإنّ العقلاء يعملون بخبر من أخبر ثقة من أهل الخبرةوالاطّلاع بوثاقته، وإن لم يعلموا بها، وكذلك الأمر في محيط الشرع، فإنّ سؤالأصحاب الأئمّة إيّاهم عليهمالسلام عن وثاقة بعض الرواة(2) كان بما أنّهم عليهمالسلام من أهلالاطّلاع والخبرة، لا بما أنّهم عليهمالسلام معصومون ويفيد قولهم العلم الشخصي.
نعم، لا أثر لتوثيق أهل الخبرة في موارد العلم الشخصي بعدم الوثاقة، فليشترط العلم بالوفاق، لكن يشترط عدم العلم بالخلاف.
قيمة التوثيقات العامّة
- (1) مثل علماء الرجال. م ح ـ ى.
- (2) كقول عبد العزيز بن المهتدي للرضا عليهالسلام : «أفيونس بن عبد الرحمان ثقة آخذ عنه ما أحتاج إليه من معالمديني؟». وسائل الشيعة 27: 147، كتاب القضاء، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 33.