ج4
في حكم العقل بالبرائة
الاستدلال بحكم العقل على البرائة
وأمّا العقل:
فهي قاعدة «قبح العقاب بلابيان».
ولابدّ من ملاحظة جهات ثلاث حول هذه القاعدة ليتّضح الأمر:
أ ـ أنّها هل تكون قاعدة مستقلّة عقليّة أو من توابع مسألة «قبح الظلم»؟
ب ـ أنّ هذه القاعدة هل هي متعارضة مع قاعدة «لزوم دفع الضررالمحتمل» أو هما تختلفان بحسب المورد؟
ج ـ أنّ أدلّة الاحتياط ـ على فرض تماميّتها سندا وجريانها في الشبهاتالبدويّة التي هي مجرى البرائة دلالةً ـ هل تتقدّم على قاعدة «قبح العقاب بلبيان» أو يقع التعارض بينهما؟
البحث حول كون «قبح العقاب بلابيان» قاعدة عقليّة مستقلّة
أمّا الجهة الاُولى: فلا إشكال ولا كلام في أنّ المكلّف لو وقع في مخالفةتكليف لم يصل إليه سواء لم يبيّنه المولى أو بيّنه ولم يصل بيانه إلى المكلّف بعدالفحص التامّ عنه في مظانّها لقبح على المولى عقابه، فالمراد من القاعدة هو«قبح العقاب بلابيان واصل» وهذه قاعدة عقليّة مسلّمة اتّفق عليهالاُصوليّون والأخباريّون، وذلك لعدم كون العبد مقصّرا في عدم حصول
(صفحه428)
غرض المولى إذا فحص عن التكليف في جميع مظانّه ولم يطّلع عليه. إنّما الكلامأوّلاً: في أنّ حكم العقل بـ «قبح العقاب بلابيان» هل هو قاعدة مستقلّة أو منشئون مسألة «قبح الظلم»، وثانيا: أنّ ما هو المهمّ من البحث في مسألة البرائةهل يرتبط بقاعدة «قبح العقاب بلابيان» أو بقاعدة عقليّة اُخرى؟
كلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله في ذلك
قال المحقّق الاصفهاني رحمهالله في حاشيته الدقيقة على الكفاية:
توضيح المقام: أنّ هذا الحكم العقلي حكم عقلي عملي بملاك التحسينوالتقبيح العقليّين، وقد بيّنا في مباحث القطع والظنّ مرارا أنّ مثله مأخوذ منالأحكام العقلائيّة التي حقيقتها ماتطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظاموإبقاءً للنوع، وهي المسمّاة بالقضايا المشهورة المعدودة في الصناعات الخمسمن علم الميزان، ومن الواضح أنّ حكم العقل بـ «قبح العقاب بلابيان» ليسحكما عقليّا عمليّا منفردا عن سائر الأحكام العقليّة العمليّة، بل هو من أفرادحكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظرا إلى أنّ مخالفة ما قامت عليه الحجّةخروج عن زيّ الرقّيّة ورسمالعبوديّة، وهو ظلم من العبد على مولاه،فيستحقّ منه الذمّ والعقاب، كما أنّ مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة ليست منأفراد الظلم، إذ ليس من زيّ الرقّيّة أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع وفينفس الأمر، فليس مخالفة ما لم تقم عليه الحجّة خروجا عن زيّ الرقّيّة حتّىيكون ظلما، وحينئذٍ فالعقوبة عليه ظلم من المولى على عبده، إذ الذمّ على ملا يذمّ عليه والعقوبة على ما لا يوجب العقوبة عدوان محض وإيذاء بحتبلاموجب عقلائي، فهو ظلم، والظلم بنوعه يؤدّي إلى فساد النوع واختلالالنظام، وهو قبيح من كلّ أحد بالإضافة إلى كلّ أحد ولو من المولى إلى عبده،
ج4
لكن لا يخفى أنّ المهمّ هو دفع استحقاق العقاب على فعل محتمل الحرمة مثلما لم تقم عليه حجّة منجّزة لها، وحيث إنّ موضوع الاستحقاق بالأخرة هوالظلم على المولى فمع عدمه لا استحقاق قطعا، وضمّ قبح العقاب من المولىأجنبيّ عن المقدار المهمّ هنا، وإن كان صحيحا في نفسه(1)، إنتهى كلامه.
و حاصله ـ بعد التأمّل الدقيق فيه من الصدر إلى الذيل ـ أمران:
أ ـ أنّ قبح العقاب من المولى بلابيان وإن كان صحيحا في نفسه، إلاّ أنّهأجنبيّ عن محلّ النزاع في باب البرائة، فإنّ المهمّ المبحوث عنه هاهنا هو أمريرتبط بالعبد لابالمولى، وهو دفعاستحقاقالعقاب علىمخالفة تكليف لمتقمعليهحجّة(2)، وحيثإنّموضوعالاستحقاقهوالظلم علىالمولى فمععدمهلااستحقاققطعا، ولا ريب في أنّ مخالفة تكليف لم تقم عليه الحجّة ليست من مصاديقالظلم على المولى، إذ ليس مخالفته خروجا عن زيّ الرقّيّة حتّى يكون ظلما.
وبالجملة: لا يحتاج الاُصولي إلى قاعدة «قبح العقاب بلابيان» بعد حكمالعقل بعدم استحقاق العقوبة، لأجل عدم تحقّق الظلم على المولى.
ب ـ أنّ حكم العقل بـ «قبح العقاب بلابيان» ليس حكما عقليّا مستقلاًّ، بلهو من مصاديق قبح الظلم الذي هو من الأحكام العقليّة العمليّة المسلّمة بينالعقلاء(3)، سواء وقع الظلم من قبل العبد بالنسبة إلى مولاه، كالخروج عن زيّالرقّيّة بمخالفة تكليف قامت عليه الحجّة، أو من قبل المولى بالنسبة إلى العبد،
- (1) نهاية الدراية 4: 84 .
- (2) وعدم استحقاق العبد العقوبة وإن كان يلازم قبح العقاب من قبل المولى، إلاّ أنّ ما ينطبق على المدّعىبنحو المطابقة هو نفس عدم استحقاق العقوبة لا مايلازمه. منه مدّ ظلّه توضيحا لكلام المحقّقالاصفهاني رحمهالله .
- (3) لا يخفى عليك أنّ قبح الظلم عند المحقّق الاصفهاني رحمهالله حكم عقلي لا عقلائي، لأنّه أراد من «العقلاء»هاهنا من كان تحت حكومة العقل ونظم أعماله على طبق الأحكام العقليّة، لا «العرف» الذي هو المراد من«العقلاء» في سائر عبارات الاُصوليّين والفقهاء. منه مدّ ظلّه توضيحا لكلام المحقّق الاصفهاني رحمهالله .
(صفحه430)
كالعقوبة على مخالفة تكليف لم تقم عليه الحجّة، أو من قبل بعض العبيدبالنسبة إلى بعض آخر، فإنّ العقل يحكم بقبح جميع ذلك عند العقلاء.
نقد كلام المحقّق الاصفهاني من قبل الإمام الخميني رحمهماالله
وناقش فيه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام قدسسره بقوله:
أقول: إنّ العقل مستقلّ بوجوب إطاعة المنعم، وقبح مخالفته، واستحقاقالمتخلّف للعقوبة، وهذا الحكم ـ استحقاقه للعقوبة ـ ليس بمناط انطباق عنوانالظلم عليه، بل العقل يستقلّ بهذا مع الغفلة عن الظلم.
على أنّ كون مطلق المخالفة ظلما للمولى محلّ بحث وإشكال.
هذا أوّلاً.
وأمّا ثانيا: فلأنّ المرمى في المقام هو تحصيل المؤمّن عن العقاب حتّىيتسنّى(1) له الارتكاب، وهو لا يحصل إلاّ بالتمسّك بهذه الكبرى التي مآلها إلىقبح صدور العقاب من المولى الحكيم العادل.
وأمّا مجرّد دفع الاستحقاق بمناط أنّ الارتكاب ليس بظلم فلا يكفي فيذلك، لأنّ دفع الاستحقاق عن ناحية الظلم وحصول الطمأنينة من تلكالناحية لا يصير مؤمّنا عن عامّة الجهات ما لم ينضمّ إليه الكبرى المذكورة(2).
إنتهى كلامه قدسسره .
ثمّ إنّ الأخباريّين تمسّكوا لإثبات وجوب الاحتياط بقاعدة «لزوم دفعالضرر المحتمل» فلابدّ من ملاحظة حدودها وثغورها، ثمّ كيفيّة التوفيق بينهوبين قاعدة «قبح العقاب بلا بيان» وسيجيء هذا البحث عند بيان أدلّة
- (1) تسنّى الأمر: تهيّأ، والرجل: تيسّر وتسهّل في اُموره، والرجل: ترضّاه، والقفل: انفتح. م ح ـ ى.
- (2) تهذيب الاُصول 3: 86 .
ج4
الأخباريّين(1)، وهذا هو الجهة الثانية من الجهات الثلاثة التي أردنا التكلّم فيههاهنا.
ما هو النسبة بين قاعدة «قبح العقاب بلابيان» وأدلّة الاحتياط؟
وأمّا الجهة الثالثة: فالإنصاف أنّ أدلّة الاحتياط لو تمّت سندا وعمّتالشبهات البدويّة دلالةً لكانت حاكمة على قاعدة «قبح العقاب بلابيان» كمذهب إليه الأخباريّون، إنّما النزاع بيننا وبينهم في جريانها في الشبهات البدويّةالتي هي مجرى قاعدة «قبح العقاب بلابيان».
هذا تمام الكلام في أدلّة القائلين بالبرائة.