(صفحه330)
التمسّك بالخبر الواحد هو كونه حجّة وإن لم يحصل القطع أو الاطمئنانبصدوره.
فلايمكن أن يكون هذا الإجماع العملي ـ مع اختلاف مباني المجمعين ـ كاشفعن كون المعصوم موافقاً للعمل بالخبر الواحد الذي لا يقطع ولا يطمئنّبصدوره.
ومنها: الإجماع العملي من قبل المتشرّعة، لاستقرار سيرتهم على العملبخبر الثقة في الاُمور الدينيّة، ويشهد عليه ما نرى من رجوع العوامّ إلى منيثقون به ممّن ينقل فتوى الفقيه الذي يقلّدونه، لصعوبة الحضور بين يديهوأخذ الفتوى منه بلا واسطة.
وكان الأمر كذلك أيضاً في زمن الأئمّة عليهمالسلام ، بل كان أخذ الأحكام منهم عليهمالسلام مباشرةً أصعب؛ للموانع الطبيعيّة والسياسيّة في ذلك الزمان، من تباعد البلادالإسلاميّة وصعوبة السفر، وكونهم عليهمالسلام في حال التقيّة.
وبالجملة: لا ريب في استقرار سيرة المتشرّعة على الأخذ بقول الثقة فيالاُمور الدينيّة من عصر الأئمّة المعصومين عليهمالسلام إلى زماننا هذا.
لكن يمكن أن يقال: الظاهر أنّ رجوع المتشرّعة إلى خبر الثقة إنّما هو منباب بناء العقلاء، لا أنّه سيرة جارية بينهم خاصّة، وستعرف أنّ بناء العقلاءأهمّ دليل على حجّيّة الخبر الواحد، لكن لا يصحّ تسميته إجماعاً عمليّاً منقبل المتشرّعة.
الوجوه العقليّة التي اُقيمت على حجّيّة الخبر الواحد
وأمّا العقل: فقد قرّر بوجوه:
أحدها: أنّه يعلم إجمالاً بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار من الأئمّة
ج4
الأطهار عليهمالسلام ؛ لأنّ اهتمام الرواة بشأن الأحاديث ووسوستهم في من تنقل عنهـ بحيث شدّد بعضهم على بعض لأجل نقله عن الضعفاء ـ يوجب القطعبصدور كثير من الأحاديث التي بأيدينا من المعصومين عليهمالسلام .
وحينئذٍ فلابدّ من العمل بكلّ رواية مشتملة على التكليف، لحكم العقلبأصالة الاشتغال في موارد العلم الإجمالي.
وهذا الدليل وإن كان تامّاً في نفسه، إلاّ أنّه لا ينطبق على المدّعى؛ لأنّهيقتضي لزوم العمل بالخبر الواحد المثبت للتكليف من باب أصالة الاشتغال،فلا يكاد ينهض على حجّيّة الخبر التي قضيّتها أن يكون الخبر منجّزاً عندالإصابة ومعذّراً عند الخطأ، فلا يمكن تخصيص عمومات الكتاب أو تقييدمطلقاته به؛ لأنّ هذا الدليل لا يقتضي إلاّ لزوم الاحتياط في مورد الرواياتللعلم الإجمالي بصدور بعضها، وأمّا كونها حجّة منجّزة ومعذّرة ومخصّصةومقيّدة فلا يمكن إثباته بهذا الدليل.
ثانيها: أنّا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيّما الاُصول الضروريّة،كالصلاة والزكاة والصوم والحجّ والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أنّ جلّأجزائها وشرائطها وموانعها إنّما تثبت بالخبر غير القطعي، بحيث نقطع بخروجحقائق هذه الاُمور عن كونها هذه الاُمور عند ترك العمل بالخبر الواحد.
ويرد عليه ما أوردناه على التقرير الأوّل، فإنّ الوصول إلى جلّ أجزاءالواجبات الضروريّة وشرائطها وموانعها وإن كان منحصراً في الأخبارالآحاد، إلاّ أنّ لازمه لزوم الاحتياط بالعمل بالأخبار المتضمّنة لتلك الأجزاءوالشرائط والموانع، لأجل العلم الإجمالي بكونها في الأخبار، وهذا لا ينطبقعلى المدّعى، وهو حجّيّة الخبر الواحد بحيث يكون منجّزاً ومعذّراً ومخصّصومقيّداً.
(صفحه332)
كلام صاحب «هداية المسترشدين» في المقام
ثالثها: ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله صاحب الحاشية النفيسة على المعالم،وحاصله: أنّا نعلم بالأدلّة القطعيّة ـ منها حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين أنّا مكلّفون بالرجوع إلى السنّة إلى يوم القيامة، كما أنّا مكلّفون بالكتاب.
وحينئذٍ فإن تمكّنّا من العلم بالسنّة أخذنا بها، وإلاّ فلابدّ من التمسّك بميظنّ كونه سنّةً(1). هذا حاصل كلامه رحمهالله .
نقد ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله
وفيه: أنّه إن أراد بـ «السنّة» التي وجب الرجوع إليها بالأدلّة القطعيّة نفسقول المعصوم عليهالسلام وفعله وتقريره، فلا يرتبط بالمقام؛ لأنّ وجوب الرجوع إليهلا يثبت حجّيّة الخبر الحاكي عنها التي هي محلّ النزاع.
وإن أراد بها «السنّة الحاكية» فهي خلاف ظاهر ما ادّعاه من الأدلّة، فإنّالمراد من التمسّك بالعترة في «حديث الثقلين» هو الرجوع إلى أقوالهم وأفعالهموتقريراتهم، وأمّا وجوب العمل بالأخبار الحاكية عنها فلا دلالة له عليه لبالمطابقة ولا بالالتزام.
اللّهمَّ إلاّ أن يُقال برجوع هذا الدليل إلى أحد الدليلين السابقين، من أنّنعلم بصدور كثير ممّا بأيدينا من الأخبار، أو بأنّ الوصول إلى جلّ أجزاءالواجبات الضروريّة وشرائطها وموانعها ينحصر في الأخبار الآحاد.
وقد عرفت الجواب عنهما.
نعم، يمكن أن يقال: إنّه رحمهالله أراد بـ «السنّة» نفس قول المعصوم وفعله
- (1) هداية المسترشدين 3: 373.
ج4
وتقريره، وإذا وجب علينا التمسّك بها بمقتضى «حديث الثقلين» فإن علمنا بهفلا كلام، وإن لم نعلم بها تصل النوبة إلى الظنّ(1) ويجب التمسّك بما يظنّ كونهسنّة.
لكن يرد عليه أيضاً أنّه لا دليل على شمول «حديث الثقلين» لما يظنّ كونهمن السنّة، إذ من المحتمل اختصاصه بما علم كونه سنّة، كقول المعصوم عليهالسلام المسموع منه بلا واسطة، أو المحكيّ بدليل قطعي، كالخبر المتواتر أو المحفوفبالقرينة القطعيّة، وأمّا ما ظنّ كونه سنّة، كما إذا أخبر زرارة مثلاً بأنّه عليهالسلام قال:«صلاة الجمعة واجبة» فلا يعمّه «حديث الثقلين» سيّما أنّه جعل العترة قرينلكتاب اللّه الذي لا يثبت إلاّ بالتواتر.
على أنّ حجّيّة الخبر الواحد لا تختصّ بما إذا أفاد الظنّ الشخصي كما هوظاهر هذا الدليل.
إثبات حجّيّة الخبر الواحد ببناء العقلاء
إنّ أهمّ ما يدلّ على حجّيّة الخبر الواحد بناء العقلاء، وهو من الوجوهالعقليّة؛ لأنّ العقل هو الذي يحكم بموافقة الشارع لبناء العقلاء الذي كان بمرأىومنظر منه ولم يردع عنه.
ولا يخفى أنّ جواز التمسّك ببناء العقلاء لإثبات شيء شرعاً يتوقّف علىاُمور:
أ ـ أن يحرز أصل بنائهم على ذلك الشيء.
ب ـ أن لا يكون ذلك الشيء من المسائل المستحدثة بعد عصر
- (1) وبعبارة اُخرى: يجب التمسّك بالسنّة التي هي قول المعصوم وفعله وتقريره بمقتضى «حديث الثقلين»وكون الشيء قول المعصوم مثلاً تارةً معلومٌ لنا، كما إذا سمعنا قوله عليهالسلام مباشرةً، واُخرى مظنوناً، كما إذأخبر الثقة بأنّه عليهالسلام قال: كذا. م ح ـ ى.
(صفحه334)
المعصومين عليهمالسلام .
ج ـ أن يكون بنائهم عليه بمرأى ومنظر من الشارع.
د ـ أن لا يردع الشارع عنه.
فإذا ثبتت هذه الاُمور كشفت عن إمضاء بنائهم من قبل الشارع ورضاهباستخدامه في الشرعيّات.
ثمّ إنّه لا إشكال ولا كلام في ثبوت غير الأخير من هذه الاُمور الأربعةبالنسبة إلى العمل بخبر الثقة، فإنّ العقلاء يرتّبون الأثر دائماً على خبرمن يثقون به في اُمورهم الفرديّة والاجتماعيّة، وكان ذلك أمراً مستمرّاً في جميعالأعصار في زمن المعصومين عليهمالسلام وقبله وبعده، وكان من الاُمور الرائجةالشائعة التي لا تكاد تخفى على الشارع المقدّس.
إنّما الكلام في الأمر الرابع، وهو أنّ الشارع هل ردع عن العمل بخبر الواحدولو كان ثقةً أم لا؟
الحقّ هو الثاني؛ إذ لا دليل على الردع، ولو كان لوصل إلينا؛ لأنّ العملبخبر الثقة كان من الاُمور المتداولة بين العقلاء كثيراً، فكانت الدواعي على نقلالردع عن مثله كثيرة، فلو كان لبان.
إن قلت: نعم، لم يمنع الشارع عن العمل بخبر الثقة بالخصوص، لكن يكفيللرادعيّة عمومات النهي عن غير العلم، كقوله تعالى: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَبِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً»(1)، لما تقدّم منعدم اختصاص الآية بالمسائل الاعتقاديّة(2)، وعدم لزوم الدور من رادعيّتهعن السيرة العقلائيّة(3).