ج4
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ»(1).
قال الطبرسي: قوله: «إن جاءكم فاسق» نزل في الوليد بن عقبة بن أبيمعيط، بعثه رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في صدقات بني المصطلق فخرجوا يتلقّونه فرحاً بهوكانت بينهم عداوة في الجاهليّة، فظنّ أنّهم همّوا بقتله، فرجع إلىرسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقال: إنّهم منعوا صدقتهم، وكان الأمر بخلافه، فغضب النبيّ صلىاللهعليهوآله وهمَّ أن يغزوهم، فنزلت الآية(2)، إنتهى.
استدلّ بهذه الآية من طريق مفهوم الوصف تارةً ومن طريق مفهومالشرط اُخرى.
البحث حول مفهوم الوصف من آية «النبأ»
أمّا الأوّل: فتقريبه أنّ الحكم في الآية ـ أعني وجوب التبيّن ـ علّق علىوصف «الفاسق» وتعليق حكم على صفة يدلّ على انتفاء سنخه بانتفائها، فإذلم يكن المخبر فاسقاً، بل كان عادلاً، أو كان غير عادل ولا فاسق ـ بناءً علىثبوت الواسطة بينهما ـ فلم يجب التبيّن في خبره، وإذا لم يجب التبيّن عن خبرالعادل، فإمّا أن يردّ وإمّا أن يقبل، ولا سبيل إلى الأوّل، لأنّه يلزم أن يكونالعادل أسوء حالاً من الفاسق، فيتعيّن الثاني، وهو المطلوب، لأنّا لا نعنيبحجّيّة الخبر الواحد إلاّ قبوله.
والحاصل: أنّ الآية تدلّ بمنطوقها على عدم حجّيّة خبر الفاسق، وبمفهوموصفها على حجّيّة خبر العادل فقط بناءً على كونهما ضدّين لا ثالث لهما،وعلى حجّيّة خبر من ليس بفاسق ولا عادل أيضاً بناءً على ثبوت الواسطة
- (2) مجمع البيان في تفسير القرآن 9: 132.
(صفحه284)
بينهما.
وفيه: أنّك قد عرفت(1) أنّه لا مفهوم للجملة الوصفيّة، بل أنكر دلالتها علىالمفهوم كثير ممّن قال بدلالة الجملة الشرطيّة عليه، وذلك لأنّ دلالتها علىالانتفاء عند الانتفاء تبتني على كون الوصف علّة منحصرة للحكم، ولا يمكنالالتزام به، ضرورة أنّ الوصف لا يدلّ عليه لا بمادّته ولا بهيئته، ولا دلالةلمجموع الجملة الوصفيّة أيضاً عليه.
على أنّ المفهوم لا يختصّ بالحكم الإنشائي، فلو كان للوصف مفهوم فلابدّمن أن يكون الجملة الخبريّة أيضاً دالّةً عليه، وهو خلاف الوجدان السليم،ضرورة أنّك إذا قلت: «جاءني رجل عالم» فلا يفيد أنّ العلّة المنحصرة لمجيئههي كونه عالماً، فكذلك إذا قلت: «أكرم رجلاً عالماً».
إن قلت: الأصل في القيد أن يكون احترازيّاً، لا غالبيّاً(2) أو توضيحيّاً(3).
قلت: إن اُريد باحترازيّة القيد ثبوت المفهوم للجملة المشتملة له فهو أوّلالكلام، وإن اُريد كونه دخيلاً في ثبوت الحكم فهو مسلّم، لكن دخله فيه ليسبمعنى علّيّته المنحصرة التي يتوقّف ثبوت المفهوم عليها، ضرورة أنّ الحكميمكن أن يكون له علّتان مستقلّتان، فحينئذٍ كلّ منهما دخيل في الحكم من دونأن يدلّ دخله فيه على انتفائه عند انتفائه، بل انتفاء الحكم يتوقّف على انتفاءكلتا العلّتين كما لا يخفى.
البحث حول مفهوم الشرط من آية «النبأ»
- (1) راجع ص231 ـ 234 من الجزء الثالث.
- (2) كقوله تعالى: «وَ رَبائِبُكُمُ اللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ» النساء: 23.
فإنّ قيد «اللآتي في حجوركم» لا دخل له في حرمة «الربائب» لكنّ الربائب يعشن في حجور بعولةاُمّهاتهنّ غالباً. منه مدّ ظلّه.
- (3) كقوله تعالى: «وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً» النور: 33.
فإنّ قيد «إن أردن تحصّناً» توضيح لـ «الإكراه» لأنّ قوام «الإكراه على البغاء» إرادتهنّ التحصّن. م ح ـ ى.
ج4
وأمّا الثاني ـ أعني مفهوم الشرط ـ فتقريبه أنّه لا ريب في كون الآيةالشريفة جملة شرطيّة، والجملة الشرطيّة في رأس الجمل التي ادّعي ثبوتالمفهوم لها، فهي تدلّ على أنّه «إن لم يجئكم فاسق بنبأ ـ بل جاءكم عادل به فلا يجب عليكم التبيّن» فإذا لم يجب التبيّن عند إخبار العدل، فإمّا أن يجبالقبول، وهو المطلوب، أو الردّ، فيكون أسوء حالاً من الفاسق، وهو محال.
وقد اُورد عليه إيرادات متعدّدة:
الأوّل: أنّك قد عرفت في محلّه عدم ثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة(1).
البحث حول كون الشرط في آية «النبأ» لبيان تحقّق الموضوع
الثاني: أنّ مفهوم الشرط ـ على فرض ثبوته ـ يختصّ بما إذا كان الشرطمغايراً لموضوع الحكم، كي يمكن بقاء الموضوع مع انتفاء الشرط، كما إذا قال:«إن جاءك زيد فأكرمه» بخلاف المقام، فإنّ الشرط هاهنا ـ وهو مجيء الفاسقبالنبأ ـ سيق لبيان تحقّق الموضوع، كما في قول القائل: «إن رزقت ولداً فاختنه»و«إن ركب زيد فخذ ركابه» و«إن قدم زيد من السفر فاستقبله» و«إنتزوّجت فلا تضيّع حقّ زوجتك» و«إذا قرأت الدرس فاحفظه»، قال اللّهسبحانه: «وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا»(2)، «وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍفَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها»(3)، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.
وبالجملة: لا نبأ عند عدم مجيء الفاسق بالنبأ لكي يجب تبيّنه.
نظريّة المحقّق الخراساني والنائيني رحمهماالله في المقام
- (1) راجع ص179 ـ 193 من الجزء الثالث.
(صفحه286)
وأجاب المحقّق الخراساني رحمهالله عنه بأنّ موضوع وجوب التبيّن هو طبيعةالنبأ، والشرط هو مجيء الفاسق به، فلا يتّحدان، فالآية تكون بمعنى «النبالذي جيىء به إن كان الجائي به فاسقاً يجب التبيّن عنه وليس بحجّة» فينتفيوجوب التبيّن عند انتفاء الشرط كما إذا كان الجائي بالنبأ عادلاً.
وبالجملة: النبأ الذي جيىء به له حالتان:
أ ـ كون الجائي به فاسقاً، فليس بحجّة بمقتضى منطوق الآية، ب ـ كونهعادلاً، فهو حجّة بمقتضى مفهومها، فالآية الشريفة تكون نظير «إن جاءك زيدفأكرمه» لا نظير «إن رزقت ولداً فاختنه»(1).
هذا حاصل ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله .
وارتضاه المحقّق النائيني رحمهالله وأيّده بأنّ التأمّل في الآية يعطي أنّها في مقامالتمييز بين الخبر الذي يجب التبيّن عنه وليس بحجّة وبين ما لا يجب التبيّن عنهويكون حجّة.
وحيث إنّ وجوب التبيّن مشروط في الآية بخبر الفاسق نستنتج أنّالموضوع فيها هو طبيعة النبأ الذي له حالتان: بيّن إحدى الحالتين في منطوقها،وهو النبأ ا لذي جاء به الفاسق، والاُخرى في مفهومها، وهو النبأ الذي جاء بهغير الفاسق(2).
هذا حاصل كلام المحقّق النائيني في تأييد ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهماالله .
نقد كلامهم
ويرد على ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله أنّ الاستدلال بهذه الآية على
- (2) فوائد الاُصول 3: 164.
ج4
حجّيّة الخبر الواحد لا يتمّ إلاّ إذا كانت ظاهرة فيما ادّعاه رحمهالله من أنّ موضوعوجوب التبيّن هو طبيعة النبأ، والشرط هو مجيء الفاسق به، لكن ظهورهفيه ممنوع لو لم تكن ظاهرة في كون الشرط مسوقاً لبيان تحقّق الموضوع.
وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله من كون الآية في مقام بيان ضابطة كلّيّة بهيتميّز الخبر الذي هو حجّة عن الذي ليس بحجّة، فلا دليل عليه إلاّ على القولبدلالة الآية على المفهوم، وهو أوّل الكلام.
في دلالة مفهوم آية «النبأ» على حجّيّة خصوص البيّنة
الثالث: أنّ مفهوم الآية ـ على فرض ثبوته ـ لا يقتضي إلاّ أنّ لخبر العادلأثراً، وهو لا يلازم الحجّيّة، لاحتمال كونه مثبتاً للشيء فيما إذا انضمّ إليه قولعدل آخر ويحصل عندنا البيّنة.
توضيح ذلك: أنّه لابدّ من أن يكون بين الشرط والجزاء في القضايالشرطيّة ارتباط وسنخيّة بنحو العلّيّة والمعلوليّة(1)، ولا سنخيّة بين الشرطوما وقع بحسب الظاهر جزاءً في الآية، ضرورة أنّه لا يمكن الالتزام بوجوبالتبيّن والتفحّص عن حال الخبر فيما إذا كان المخبر فاسقاً، بحيث لو ترك التبيّنلأخلّ بواجب شرعي نفسي واستحقّ العقوبة عليه، ولو لم يقصد العمل بذلكالخبر، فلابدّ من حمل الآية على كون التبيّن شرطاً للعمل بخبر الفاسق،فالجزاء في الواقع هو عدم حجّيّة خبره، فكأنّه قال: «إن جاءكم فاسق بنبفقوله ليس بحجّة ولا يترتّب عليه أثر» ومقتضى مفهومه ـ على فرض ثبوته أنّ نبأ العادل ليس كالعدم كنبأ الفاسق، بل له أثر، وهو كما يحتمل حجّيّتهمنفرداً يحتمل أيضاً حجّيّته بشرط انضمام قول عادل آخر إليه لينطبق عليه
- (1) إذ لا إشكال في أصل علّيّة الشرط للجزاء، إنّما الإشكال في علّيّته المنحصرة. منه مدّ ظلّه.