ج4
واعترضعليه تلامذته الذين منهم المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّالحكمالظاهريوإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ أنّه يكون في مرتبة الحكم الظاهري،لعدم اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به، بل يعمّ الشاكّ فيه أيضاً، فعلى تقديرالمنافاة بين الحكمين لزم اجتماع الحكمين في مرتبة الحكم الظاهري(1).
كلام صاحب الكفاية في المقام وردّه
2ـ ما قال به المحقّق الخراساني رحمهالله في خصوص الأمارات، من أنّ التعبّدبطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيّته، والحجّيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاءأحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجّزالتكليف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقتهتجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة، فلا يلزماجتماع حكمين مثلين أو ضدّين ولا طلب الضدّين ولا اجتماع المفسدةوالمصلحة ولا الكراهة والإرادة كما لا يخفى(2).
ويرد عليه أنّ حجّيّة الأمارات وإن لم تكن بمعنى جعل حكم مماثل أومضادّ للحكم الواقعي، بل الحكم منحصر فيه والأمارة لا تقتضي إلاّ تنجّزهعند الإصابة ومعذوريّة المكلّف في مخالفته عند الخطأ، إلاّ أنّ محذور المنافاةبين الحكم الواقعي والظاهري لا يختصّ بما إذا جعل حكم شرعي ظاهريمطابق لمؤدّى الأمارات، بل بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه وترخيصالشارع في تركه ـ كما يقتضيه حجّيّة الأمارة المخطئة ـ أمران متنافيان أيضاً.
نظريّة السيّد الفشاركي في المسألة ونقده
(صفحه180)
3ـ ما أفاده السيّد المحقّق المدقّق الفشاركي رحمهالله ـ على ما نقله تلميذه المحقّقالحائري قدسسره ـ من عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخرالشكّ في الأوّل، وتوضيحه: أنّه لا إشكال في أنّ الأحكام لا تتعلّق ابتداءًبالموضوعات الخارجيّة، بل إنّما تتعلّق بالمفاهيم المتصوّرة في الذهن، لكن لمن حيث كونها موجودة في الذهن، بل من حيث إنّها حاكية عن الخارج،فالشيء ما لم يتصوّر في الذهن لا يتّصف بالمحبوبيّة والمبغوضيّة، وهذا واضح،ثمّ إنّ المفهوم المتصوّر تارةً يكون مطلوباً على نحو الإطلاق، واُخرى على نحوالتقييد، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في ذلك المقيّد(1)، وقد يكونلوجود المانع، مثلاً قد يكون عتق الرقبة مطلوباً على سبيل الإطلاق، وقديكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصّة، وقد يكون في المطلق، إلاّ أنّ عتقالرقبة الكافرة منافٍ لغرضه الآخر، ولكونه منافياً لذلك الغرض لابدّ أن يقيّدالعتق المطلوب بما إذا تحقّق في الرقبة المؤمنة، فتقييد المطلوب في القسم الأخيرإنّما هو من جهة الكسر والانكسار، لا لتضييق دائرة المقتضي، وذلك موقوفعلى تصوّر العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتّحد معه في الوجودالمخرج له عن المطلوبيّة الفعليّة، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهنبحيث يكون المتعقّل أحدهما لا مع الآخر فلا يعقل تحقّق الكسر والانكساربين جهتيهما، فاللازم من ذلك أنّه متى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المطلوبيّةيكون مطلوباً صرفاً من دون تقييد، لعدم تعقّل منافيه، ومتى تصوّر العنوانالذي فيه جهة المبغوضيّة يكون مبغوضاً كذلك؛ لعدم تعقّل منافيه، كما هوالمفروض.
والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعيّة مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهريّة
- (1) «في غير ذلك المقيّد» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.
ج4
ممّا لا يجتمعان في الوجود الذهني أبداً، مثلاً إذا تصوّر الآمر صلاة الجمعةفلايمكن أن يتصوّر معها إلاّ الحالات التي يمكن أن تتّصف بها في هذه الرتبة،مثل كونها في المسجد أو الدار وأمثال ذلك، وأمّا اتّصافها بكون حكمهالواقعي مشكوكاً فليس ممّا يتصوّر في هذه الرتبة، لأنّ هذا الوصف ممّا يعرضالموضوع بعد تحقّق الحكم، والأوصاف المتأخّرة عن الحكم لا يمكن إدراجهفي موضوعه، فلو فرضنا أنّ صلاة الجمعة في كلّ حال أو وصف يتصوّر معهفي هذه الرتبة مطلوبة بلا منافٍ ومزاحم، فإرادة المريد تتعلّق بها فعلاً، وبعدتحقّق الإرادة بها تتّصف بأوصاف اُخر لم تتّصف بها قبل الحكم، مثل أن تصيرمعلوم الحكم تارةً ومشكوك الحكم اُخرى، فلو فرضنا ـ بعد ملاحظة اتّصافالموضوع بكونه مشكوك الحكم ـ تحقّق جهة المبغوضيّة فيه يصير مبغوضبهذه الملاحظة لا محالة، ولا يزاحمها جهة المطلوبيّة الملحوظة في ذاته، لأنّالموضوع بتلك الملاحظة لا يكون متعقّلاً فعلاً، لأنّ تلك الملاحظة ملاحظةذات الموضوع مع قطع النظر عن الحكم، وهذه ملاحظته مع الحكم.
فإن قلت: العنوان المتأخّر وإن لم يكن متعقّلاً في مرتبة تعقّل الذات، ولكنّالذات ملحوظة في مرتبة تعقّل العنوان المتأخّر، فعند ملاحظة العنوان المتأخّريجتمع العنوانان في اللحاظ، فلا يعقل المبغوضيّة في الرتبة الثانية مع محبوبيّةالذات.
قلت: تصوّر ما يكون موضوعاً للحكم الواقعي الأوّلي مبنيّ على قطعالنظر عن الحكم، لأنّ المفروض كون الموضوع موضوعاً للحكم، فتصوّرهيلزم أن يكون مجرّداً عن الحكم، وتصوّره بعنوان كونه مشكوك الحكم لابدّوأن يكون بلحاظ الحكم.
ولا يمكن الجمع بين لحاظ التجرّد عن الحكم ولحاظ ثبوته. وبعبارة
(صفحه182)
اُخرى: صلاة الجمعة التي كانت متصوّرة في مرتبة كونها موضوعة للوجوبالواقعي لم تكن مقسماً لمشكوك الحكم ومعلومه، والتي تتصوّر في ضمنمشكوك الحكم تكون مقسماً لهما، فتصوّر ما كان موضوعاً للحكم الواقعيوالظاهري معاً يتوقّف على تصوّر العنوان على نحو لا ينقسم إلى القسمينوعلى نحو ينقسم إليهما، وهذا مستحيل في لحاظ واحد، فحينئذٍ نقول: متىتصوّر الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها تكون مطلوبة، ومتى تصوّرهبملاحظة كونها مشكوك الحكم(1) تكون متعلّقة لحكم آخر، فافهم وتدبّر فإنّهلا يخلو من دقّة(2)، إنتهى.
والفرق بينه وبين القول الأوّل أنّ حلّ الإشكال في القول الأوّل يكونمستنداً إلى اختلاف رتبة الحكمين، وهاهنا إلى تغاير الموضوعين.
نقد كلام السيّد الفشاركي رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّه مبنيّ على امتناع أخذ القيود المتوقّفة على الأمر فيموضوعه، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبارها، لأنّ الإطلاق يتوقّفعلى إمكان التقييد.
وأمّا بناءً على ما حقّقناه في مبحث التعبّدي والتوصّلي من إمكان أخذهفيه فلا يمتنع التمسّك بالإطلاق.
توضيح ذلك: أنّ ما هو متأخّر عن الأمر إنّما هو وجود هذا النوع منالقيود خارجاً، حيث إنّ المكلّف لا يقدر على أن يأتي بالصلاة مثلاً بداعيأمرها إلاّ بعد تعلّق الأمر بها، لكنّ الأحكام لا تتعلّق بموضوعاتها بوجوداته
- (1) «مشكوكة الحكم» صحيحة ظاهراً. م ح ـ ى.
ج4
الخارجيّة، بل بعناوينها التي تصوّرها الحاكم وأوجدها في ذهنه، ولا ريب فيإمكان تصوّر الموضوع بجميع أجزائها وشرائطها حتّى القيود المتوقّفة فيوجودها الخارجي على الأمر، فإنّ الحاكم حينما يريد أن يأمر بالصلاة يتمكّنمن تصوّر جميع ما له دخل في حصول الغرض منها من الركوع والسجودوالتكبيرة وسائر أجزائها وشرائطها حتّى قيد «إتيانها بداعي أمرها»، ومنقال بامتناع أخذ هذا النحو من القيود في متعلّق الأمر خلط بين وجودهالخارجي والذهني، فإنّ الأوّل يتوقّف على الأمر دون الثاني.
وعلى هذا فكما أنّ الآمر يتمكّن من أن يتصوّر مع صلاة الجمعة حالاتهالتي يمكن أن تتّصف بها قبل الحكم ـ مثل كونها في المسجد أو الدار ـ كذلكيتمكّن من أن يتصوّر معها الأوصاف المتأخّرة عنه ـ ككونها معلومة الحكمأو مشكوكته ـ فكيف يمكن أن تكون صلاة الجمعة في الواقع واجبة مطلقـ سواء علم بوجوبها أو شكّ فيه ـ ومع ذلك يرخّص الشارع في تركها بمقتضىالأمارة المخطئة؟!
وثانياً: أنّا نمنع أن يكون الشكّ في الحكم متأخّراً عن ذلك الحكم المشكوك،ضرورة أنّه خلاف ما نجده في أنفسنا، فإنّا كثيراً ما نشكّ في وجوب شيء، معأنّه لم يكن واجباً في الواقع.
على أنّ الالتزام بتوقّف الشكّ على ثبوت المشكوك يستلزم انقلابه إلىاليقين، فإنّ من شكّ في وجوب صلاة الجمعة مثلاً لو اعتقد أنّ الشكّ لا يتحقّقإلاّ بعد تحقّق المشكوك صار عالماً بوجوبها بصرف الشكّ فيه(1).
وثالثاً: سلّمنا استحالة أخذ القيود المتأخّرة عن الحكم في موضوعه في مقام
- (1) وتقدّم نظير هذا الإشكال عند المناقشة في كلام صاحب الكفاية في كتاب القطع، حيث قال: القطعمتأخّر عن المقطوع متفرّع عليه، فأوردنا عليه بأنّ القطع كثيراً ما يكون جهلاً مركّباً، فكيف يتوقّفوجوده على وجود المقطوع؟ على أنّه يستلزم أن لا يكون لنا قطع مخالف للواقع أصلاً. منه مدّ ظلّه.