قال في الكفاية: قد عرفت أنّه لا شبهة في أنّ القطع يوجب استحقاقالعقوبة على المخالفة والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة، فهل يوجباستحقاقها في صورة عدم الإصابة على التجرّي بمخالفته واستحقاق المثوبةعلى الانقياد بموافقته، أو لا يوجب شيئاً؟ الحقّ أنّه يوجبه، لأنّ الوجدان كميحكم بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان باستحقاق النيران أوالجنان، كذلك يشهد بصحّة مؤاخذة العبد وذمّه على تجرّيه وهتك حرمتهلمولاه وخروجه عن رسوم عبوديّته وكونه بصدد الطغيان وعزمه علىالعصيان، وصحّة مثوبته ومدحه على إقامته بما هو قضيّة عبوديّته من العزمعلى موافقته والبناء على إطاعته(1)، إنتهى كلامه ملخّصاً.
وقال في نهاية الدراية، توضيحاً لما ذكره المحقّق الخراساني في الكفاية:لاينبغي الشبهة في حكم العقل باستحقاق العقاب على التجرّي، لاتّحاد الملاكفيه مع المعصية الواقعيّة، بيانه: أنّ العقاب على المعصية الواقعيّة ليس لأجلذات المخالفة مع الأمر والنهي، ولا لأجل تفويت غرض المولى بما هو مخالفةوتفويت، ولا لكونه ارتكاباً لمبغوض المولى بما هو، لوجود الكلّ في صورةالجهل، بل لكونه هتكاً لحرمة المولى وجرأةً عليه، إذ مقتضى رسوم العبوديّةإعظام المولى وعدم الخروج معه عن زيّ الرقّيّة، فالإقدام على ما أحرز أنّهمبغوض المولى خلاف مقتضى العبوديّة ومنافٍ لزيّ الرقّيّة، وهو هتكلحرمته، وظلم عليه، وهذا الحكم العقلي من الأحكام العقليّة الداخلة فيالقضايا المشهورة المسطورة في علم الميزان في باب الصناعات الخمس،وأمثال هذه القضايا ممّا تطابقت عليه آراء العقلاء لعموم مصالحها وحفظالنظام وبقاء النوع بها(2)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
بيان ما هو الحقّ في المسألة
ولابدّ لتحقيق الحال من ذكر أمرين:
أ ـ أنّه لا يترتّب على المعصية الواحدة إلاّ عقاب واحد ناشٍ عن ملاكواحد، ولا يحتمل كونه ناشياً عن ملاكين متداخلين أو ملاكات كذلك.
فلابدّ لنا من ملاحظة خصوصيّات المعصية الواقعيّة، ليتبيّن أنّ ملاكاستحقاق العقوبة فيها ماهو؟
ب ـ أنّه لا يمكن أن يقال بأنّ ملاك استحقاق العقوبة في باب التجرّي ـ علىالقول به ـ غير ما هو الملاك في باب المعصية.
فإن أحرزنا الملاك في المعصية، وأحرزنا أنّه موجود في التجرّي لترتّبعليه أيضاً استحقاق العقاب، وإن لم يتبيّن لنا ما هو الملاك فيها، أو لم نعلمبوجوده فيه، فلا.
ملاك استحقاق العقوبة في المعصية الواقعيّة
إنّ هاهنا اُموراً ينبغي البحث عن دخلها في استحقاق العاصي للعقاب:
الأوّل: بعض مبادئ إرادة الحرام، كـ «تصوّر الحرام» أو «التصديقبفائدته».
ولا يخفى أنّ واحداً منها لا يصلح لأن يكون ملاكاً لاستحقاق العقوبة علىالمعصية، ضرورة أنّا كثيراً ما نتصوّر المحرّمات، وأنّ كثيراً من الناس يصدّقونفي أنفسهم بفائدة السرقة والالتذاذ بالزنا ونحوهما، فهل يمكن الالتزام بأنّنستحقّ في كلّ يوم عقوبات كثيرة لأجل تصوّر محرّمات متعدّدة والتصديق بم
ج4
يترتّب عليها من المنافع والتلذّذات النفسانيّة؟!
الثاني: نفس «إرادة الحرام» التي يعبّر عنها في لسان الروايات بنيّة المعصية،والمراد بها العزم الجازم على ارتكاب المعصية، بحيث لو لم يمنعه مانع لارتكبها.
ولا يخفى أنّها أيضاً غير دخيلة في استحقاق العقوبة، لشهادة العقل بأنّ العبدما لم يرتكب الحرام خارجاً لا يصحّ عقابه، وإن أراده بإرادة حتميّة جازمة.
هذا بحسب حكم العقل.
لكن هاهنا روايات(1): بعضها تدلّ على ترتّب العقوبة على مجرّد نيّةالمعصية، وبعضها الآخر على نفي العقوبة عن العبد ما لم يعص خارجاً.
ولو تمّت هذه الأخبار سنداً ودلالةً لأمكن الجمع بين الطائفتينبحمل الطائفة الاُولى على ترتّب استحقاق العقوبة، والثانية على نفيفعليّتها، فإنّ اللّه تعالى يتفضّل على كثير من المجرمين المستحقّين للعقابولا يعاقبهم.
وحيث إنّا نبحث في ملاك استحقاق عقوبة العاصي لا في ملاك أصلالعقوبة لدلّت الأخبار بمقتضى الجمع المذكور على أنّ الملاك هو نيّة العصيانالمشتركة بينه وبين التجرّي.
لكنّ الكلام في سندها ودلالتها.
على أنّه لو فرضنا شخصين أراد كلّ منهما شرب الخمر مثلاً، لكن وصلأحدهما إلى مطلوبه لتوفّر الشرائط، ولم يصل إليه الآخر لحيلولة الموانع، فإنقلنا بتساويهما في استحقاق العقوبة ولا يترتّب على المعصية الصادرة عنالشخص الأوّل أثر أصلاً فهو واضح البطلان، وإن قلنا بكون الشخص الأوّل
- (1) راجع للاطّلاع على هذه الروايات وسائل الشيعة 1: 49 ـ 58، كتاب الطهارة، الباب 6 و7 من أبوابمقدّمة العبادات.
(صفحه62)
مستحقّاً لعقاب زائد على العقاب المشترك بينه وبين الثاني فلا محالة كاناستحقاق هذا العقاب الزائد ناشئاً عن ملاك آخر غير النيّة التي تكونمشتركة بينهما، وقد عرفت أنّه ليس للعصيان الواقعي إلاّ عقوبة واحدة ناشئةعن ملاك واحد.
فلايمكن القول بكون الملاك في المعصية الواقعيّة إرادتها ونيّتها باستناد هذهالأخبار المخالفة لهذا الحكم العقلي.
الثالث: أن يكون الموجب لاستحقاق العقوبة «ارتكاب ما فيه مفسدةلازمة الاجتناب» وبتعبير آخر: «ارتكاب ما هو مبغوض للمولى».
وفيه: أنّه لو كان ملاكاً لكان من خالف التكليف جاهلاً أيضاً مستحقّللعقاب، سواء كان جهله بسيطاً، كما إذا شكّ في خمريّة مائع فشربه بمقتضىأصالة الحلّيّة، أو مركّباً، كما إذا قطع بكونه ماءً، فشربه، وكان خمراً واقعاً فيالصورتين، ولا يمكن الالتزام بهذا اللازم، ضرورة عدم استحقاق الجاهلللعقوبة.
الرابع: أن يكون الملاك «ارتكاب ما هو مبغوض للمولى مع الالتفاتبكونه كذلك».
واعترض عليه سيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله بأنّ باب الثواب والعقابغير مربوط بالجهات الواقعيّة من المصالح والمفاسد والمحبوبيّة والمبغوضيّة،ولذا لو فرض أمر المولى بلا مصلحة ومحبوبيّة(1) كان مخالفته موجبةللاستحقاق كما لا يخفى(2)، إنتهى كلامه رحمهالله .
الحقّ في المسألة
- (1) كالأوامر الامتحانيّة. منه مدّ ظلّه.
ج4
الخامس: أن يكون الموجب لاستحقاق العقوبة «مخالفة تكليف المولى عنعمد وعلم واختيار».
وهذا هو الذي يشهد به الوجدان ويحكم به العقل ويستقرّ عليه بناء العقلاءفي قوانينهم العامّة، فإنّهم لا يعاقبون إلاّ من خالف القانون مع علمه والتفاتهإليه.
ولا يخفى أنّ هذا يختصّ بالمعصية الواقعيّة، لعدم صدق مخالفة التكليف علىالتجرّي كما هو واضح.
نعم، لو كان ملاك الاستحقاق هتك العبد لحرمة مولاه وخروجه عنرسوم عبوديّته وكونه بصدد الطغيان وعزمه على العصيان ـ كما قال به الأعلامالثلاثة(1) ـ لجرى في العاصي والمتجرّي كليهما.
لكنّه يستلزم أن يترتّب على المعصية الواقعيّة استحقاق عقابين، لاشتمالهعلى ملاكين:
أ ـ «مخالفة تكليف المولى عن عمد وعلم واختيار» وهذا يختصّبالمعصية.
ب ـ «كون العبد بصدد الطغيان وعزمه على العصيان» وهذا يشترك بينهوبين التجرّي.
وحيث إنّه لا يمكن الالتزام به وقع القائلون بترتّب العقاب على التجرّي فيحيص وبيص:
كلام المحقّق العراقي رحمهالله في ذلك ونقده
فذهب المحقّق العراقي رحمهالله إلى أنّه لا فرق فيما يوجب استحقاق العقاب بين
- (1) يعني المحقق الخراساني، والاصفهاني، والعراقي رحمهمالله . م ح ـ ى.