(صفحه146)
المقرّبيّة.
ويؤيّده كيفيّة الاحتياط في الشبهات البدويّة، فإنّ من احتمل أنّه صارجنباً مثلاً لا يجب عليه الغسل، لكنّه لو أراد الاحتياط لاغتسل بقصد أنّه لوكان جنباً لتقرّب به إليه تعالى(1).
بل المقام أولى بصدق العبادة عليه من الشبهات البدويّة، لعلم المكلّفهاهنا إجمالاً بتحقّق عبادة في الخارج، إمّا بإتيان صلاة الظهر أو بإتيان صلاةالجمعة، بخلاف الشبهات البدويّة.
وثالثاً: سلّمنا وجوب قصد القربة عند إتيان كلّ منهما، لكن حرمة التشريعلا تنافي جواز الاحتياط، فإنّ اجتماعهما نظير اجتماع الأمر والنهي، حيث إنّالنسبة بين التشريع والاحتياط عموم من وجه كالنسبة بين الصلاة والغصب.
بل الجواز في المقام ليس بمعنى الحلّيّة في مقابل الحرمة، بل بمعنى الكفايةـ كما أشرنا إليه ـ فالبحث إنّما هو في كفاية الاحتياط وعدمها في مقام موافقةالأمر بالعبادة، والعقل لا يرى نقصاناً في العبادة المتحقّقة بصلاة الظهر أوالجمعة إذا نوى بكلّ منهما القربة لكي يحكم بعدم الكفاية، غاية الأمر وقوعالتشريع في جنبها بعمل آخر غير مأمور به، لأنّه قصد به القربة أيضاً مع عدمكونه مقرّباً، لكنّه لا يضرّ بالمأمور به الواقعي الذي تحقّق بجميع قيوده التيمنها قصد القربة.
الرابع: أنّ الامتثال الإجمالي ينافي التميز وقصد الوجه المعتبرين فيالعبادات.
توضيح ذلك: أنّ المأمور به لابدّ من أن يكون حين الامتثال متميّزاً منغيره عند المكلّف، وأيضاً لابدّ له من قصد الوجه إمّا بنحو الغاية، كأن ينوي
- (1) وكان صحيحاً لو انكشف أنّه كان جنباً. م ح ـ ى.
ج4
إتيان الصلاة لوجوبها أو استحبابها، أو بنحو الوصف، كأن ينوي إتيان الصلاةالواجبة أو المستحبّة، مع أنّ المأمور به لا يتميّز من غيره عند من اختارالامتثال الإجمالي وأتى بصلاتي الظهر والجمعة، وهو لا يتمكّن أيضاً من قصدالوجه حين العمل، فلابدّ له من الامتثال التفصيلي عند التمكّن.
وفيه أوّلاً: أنّ هذا الدليل ـ على فرض تماميّته ـ لا ينطبق على محلّ النزاع؛لأنّا نبحث في أنّ المكلّف إذا تمكّن من إتيان المأمور به بجميع أجزائه وشرائطهفي ضمن الامتثال الإجمالي فهل يكفيه هذا النوع من الامتثال أم لابدّ له منالإطاعة التفصيليّة، مع أنّ هذا الدليل في مقام نفي إمكان الاحتياط، لكونهمخلاًّ ببعض حدود المأمور به وقيوده.
وثانياً: أنّه يمكن الجواب عن خصوص قصد الوجه بما تقدّم في مسألة قصدالقربة، بأنّ المحتاط يأتي بالعبادة الواجبة الواقعيّة بقصد وجوبها، وحيث إنّهمحتملة الانطباق على كلّ واحدة من صلاتي الظهر والجمعة يأتي بكلّ منهمبقصد احتمال وجوبها بنحو الغاية، كأن ينوي «اُصلّي صلاة الجمعة لاحتمالوجوبها» أو الوصف، كأن ينوي «اُصلّي صلاة الجمعة التي يحتمل أن تكونواجبة» وكذلك في صلاة الظهر.
نعم، يبقى الإشكال في مسألة «التميّز» لعدم تميّز المأمور به عن غيره فيالامتثال الإجمالي. لكنّ الذي يسهّل الأمر أنّه لا دليل على اعتبار التميّز أوقصد الوجه في العبادات(1).
- (1) لا يخفى عليك أنّه بناءً على اعتبارهما في العبادات يجري هاهنا أيضاً المباحث المتقدّمة في بابالتعبّدي والتوصّلي حول قصد القربة بمعنى قصد امتثال الأمر، من أنّه هل يمكن التمسّك بالإطلاقاللفظي لدفع اعتبارهما أو لا؟ وعلى الثاني فلابدّ من التمسّك بذيل الإطلاق المقامي لو كان، وإلفالمرجع هو الاُصول العمليّة، على ما مرّ توضيحه في مبحث التعبّدي والتوصّلي، الصفحة 121 ـ 138من الجزء الثاني. منه مدّ ظلّه.
(صفحه148)
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
الخامس: ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله بقوله:
الأمر الثالث: مراتب الامتثال والإطاعة عند العقل أربعة:
المرتبة الاُولى: الامتثال التفصيلي، سواء كان بالعلم الوجداني أو بالطرقوالأمارات والاُصول المحرزة التي تقوم مقام العلم، فإنّ الامتثال بالظنونالخاصّة وبالاُصول المحرزة يكون في حكم الامتثال بالعلم الوجداني، بلالامتثال بالظنّ المطلق عند انسداد باب العلم بناءً على الكشف أيضاً يكونحكمه حكم الامتثال بالعلم وفي عرضه، فإنّ حال الظنّ المطلق بناءً علىالكشف حال الظنّ الخاصّ، لأنّ معنى الكشف هو أنّ الشارع جعل الظنّحجّةً مثبتاً للأحكام الواقعيّة وطريقاً محرزاً لها، فيكون الامتثال به في عرضالامتثال العلمي.
المرتبة الثانية: الامتثال العلمي الإجمالي، كالاحتياط في الشبهات المقرونةبالعلم الإجمالي.
المرتبة الثالثة: الامتثال الظنّي(1)، سواء في ذلك الظنّ الذي لم يقم دليل علىاعتباره، أو الظنّ المطلق عند انسداد باب العلم بناءً على الحكومة، فإنّ معنىالحكومة هو حكم العقل بتعيّن الامتثال الظنّي عند تعذّر الامتثال العلمي.
المرتبة الرابعة: الامتثال الاحتمالي، كما في الشبهات البدويّة أو الشبهاتالمقرونة بالعلم الإجمالي عند تعذّر الامتثال الإجمالي أو الظنّي.
ولا إشكال في أنّه لا تصل النوبة إلى الامتثال الاحتمالي إلاّ بعد تعذّر
- (1) مثال الامتثال الظنّي ما إذا كان احتمال وجوب صلاة الجمعة راجحاً عنده برجحان لم يقم دليل علىاعتباره واحتمال وجوب صلاة الظهر مرجوحاً، فإنّه إذا صلّى الجمعة فقط تحقّق الامتثال الظنّي.منه مدّ ظلّه.
ج4
الامتثال الظنّي، ولا تصل النوبة إلى الامتثال الظنّي إلاّ بعد تعذّر الامتثالالإجمالي، إنّما الإشكال في المرتبتين الأوّلتين.
فقيل: إنّهما في عرض واحد، وقيل بتقديم رتبة الامتثال التفصيلي معالإمكان على الامتثال الإجمالي، وعلى ذلك يبتني بطلان عبادة تاركي طريقالاجتهاد والتقليد والعمل بالاحتياط.
وهذا هو الأقوى، ولكن في خصوص ما إذا استلزم منه تكرار جملةالعمل(1)، فإنّ حقيقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولى، بحيثيكون الداعي والمحرّك له نحو العمل هو تعلّق الأمر به وانطباق المأمور بهعليه، وهذا المعنى في الامتثال الإجمالي لا يتحقّق، فإنّ الداعي له نحو العملبكلّ واحد من فردي الترديد ليس إلاّ احتمال تعلّق الأمر به، فإنّه لا يعلمانطباق المأمور به عليه بالخصوص.
نعم، بعد الإتيان بكلا فردي الترديد يعلم بتحقّق ما ينطبق المأمور به عليه،والذي يعتبر في حقيقة الطاعة عقلاً هو أن يكون عمل الفاعل حال العملبداعي تعلّق الأمر به حتّى يتحقّق منه قصد الامتثال التفصيلي فيما بيده منالعمل، ومجرّد العلم بتحقّق الأمر بأحد فردي الترديد لا يقتضي أن يكونالانبعاث عن البعث المولوي، بل أقصاه أن يكون الانبعاث عن احتمال البعثبالنسبة إلى كلّ واحد من العملين.
نعم، الانبعاث عن احتمال البعث وإن كان أيضاً نحواً من الطاعة عند العقل،إلاّ أنّ رتبته متأخّرة عن الامتثال التفصيلي.
فالإنصاف أنّ مدّعي القطع بتقديم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال
- (1) الاحتياط بتكرار جملة العمل في مقابل الاحتياط بتكرار جزء أو شرط منه، كما إذا دار أمر القراءة فيظهر الجمعة بين الجهر والإخفات، فإنّ للمكلّف الاحتياط بتكرار القراءة بلا تكرار الصلاة على ما ذهبإليه المحقّق النائيني رحمهالله في فوائد الاُصول 3: 74. م ح ـ ى.
(صفحه150)
الإجمالي في الشبهات الموضوعيّة والحكميّة مع التمكّن من إزالة الشبهة ليكون مجازفاً في دعواه، مع أنّه لو سلّم الشكّ في ذلك فقد عرفت أنّ الأصليقتضي الاشتغال لا البراءة، لأنّ مرجع الشكّ في ذلك إلى الشكّ في التخيير بينالامتثال التفصيلي والإجمالي أو تعيّن الامتثال التفصيلي(1)، إنتهى كلامهملخّصاً.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
ويمكن المناقشة فيه أوّلاً: بأنّا لا نسلّم أنّ حقيقة الإطاعة هو الانبعاث عنبعث المولى، إذ لا فرق عند العقل بين الإطاعة في باب العبادات والتوصّليّاتإلاّ في لزوم قصد القربة وعدمه، وأمّا كون الانبعاث ناشئاً عن البعث فهوأجنبيّ عن الطاعة، فإذا اشتمل المأتيّ به على جميع حدود المأمور به وقيودهالتي منها قصد القربة فقد تحقّقت الإطاعة بلا ريب ولا شبهة.
وثانياً: بما ذكره سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله من أنّ الانبعاث لا يكونناشئاً عن البعث بوجوده الواقعي أصلاً، لا في موارد العلم التفصيلي ولا فيموارد العلم الإجمالي، ولذا لا يتحقّق الانبعاث فيما إذا لم يعلم العبد بالتكليف لتفصيلاً ولا إجمالاً، مع أنّ البعث بوجوده الواقعي لو كان علّة للانبعاث لأثّرفيه ولو كان العبد جاهلاً به.
بل البعث بوجوده العلمي أيضاً لا يكون علّة تامّة لتأثّر العبد وتحرّكه نحوإيجاد المأمور به، وإلاّ فلم يتحقّق عصيان في العالم أصلاً.
نعم، العلم بالبعث يوجب الانبعاث فيما إذا انضمّ إليه التفكّر فيما يترتّب علىالموافقة من البركات وعلى المخالفة من التبعات(2).