المفهوم ممّا لا سبيل إلى إنكاره، وبالبيان المتقدّم ظهر: أنّه لا منافاة بين المفهوموعموم التعليل، لأنّ ثبوت المفهوم للقضيّة لا يقتضي تخصيص عمومه، بلالعموم على حاله، والمفهوم يوجب خروج خبر العادل عن موضوعه لا عنحكمه، ولا يكاد يمكن أن يتكفّل العامّ بيان موضوعه من وضع أو رفع، بل إنّميتكفّل حكم الموضوع على فرض وجوده، والمفهوم يمنع عن وجوده ويخرجخبر العادل عمّا وراء العلم الذي هو الموضوع في العامّ، فلا يعقل أن يقعالتعارض بينهما، وذلك واضح(1)، إنتهى.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله
وأجاب المحقّق الاصفهاني رحمهالله عن مسألة الحكومة في المقام بأنّها تستلزمالدور، لأنّ حكومة المفهوم على عموم التعليل تتوقّف على ثبوت المفهوم
للشرطيّة، وثبوت المفهوم لها يتوقّف على حكومته على عموم التعليل، وإلفلو لم يكن حاكماً عليه بل وقع التعارض بينهما، لمنع عموم التعليل من انعقادظهور الآية في المفهوم.
وبالجملة: كلّ من ثبوت المفهوم وحاكميّته على ظهور التعليل في العموم فيآية «النبأ» يتوقّف على نفسه، فلا يمكن الالتزام بما التزم به المحقّق النائيني رحمهالله (1).
هذا توضيح ما أفاده المحقّق الاصفهاني رحمهالله في المقام.
نظريّة صاحب الكفاية في معنى كلمة «الجهالة» من آية «النبأ»
ومنها: ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله بقوله:
ولا يخفى أنّ الإشكال إنّما يبتني على كون «الجهالة» بمعنى عدم العلم، مع أنّدعوى أنّها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل غير بعيدة(2)،إنتهى.
وعليه فالتعليل يختصّ بخبر الفاسق الذي يحتمل تعمّد الكذب في حقّه،وأمّا العمل بخبر العادل الذي لا يحتمل في حقّه ذلك فلا يعدّ سفاهة عندالعقلاء.
البحث حول ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله
وقد نوقش فيه بوجهين:
أ ـ أنّه خلاف ما نجده في معاجم اللغة، فإنّ «الجهل» فيها يكون في مقابل«العلم» ويكون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.
- (1) نهاية الدراية 3: 212.
ج4
ب ـ أنّ قوله تعالى: «فَتَبَيَّنُوا» يدلّ على لزوم التفحّص عن النبأ الذي جاءبه الفاسق لكي يحصل العلم واليقين بواقعيّة المسألة، فكانت «الجهالة»المذكورة في التعليل أيضاً ما يقابل العلم واليقين.
ولكن يمكن الجواب عن الأوّل: بأنّ «الجهل» استعمل في لسان الرواياتوكثير من الأدعية المأثورة عن أهل البيت عليهمالسلام في مقابل «العقل»، ويشهد لهأنّ محمّد بن يعقوب الكليني رحمهالله خصّ أحد كتب الكافي بالأحاديث الواردةحول «العقل» و«الجهل» وذكر في رواية للعقل جنوداً وللجهل جنوداً اُخر(1).
بل لا يبعد دعوى ذلك في الآيات القرآنيّة أيضاً، فإنّ «الجهالة» في قولهتعالى: «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْقَرِيبٍ»(2) لابدّ من أن تكون بمعنى «السفاهة»، لعدم صحّة القول باختصاصالتوبة بمن عمل السوء بغير علم، بل بابها مفتوح لكلّ من عمل ما لا ينبغيصدوره من العاقل.
وعنالثاني: بأنّ «التبيّن» المأمور به لايختصّ بتحصيلالعلم واليقين فيموردالواقعة التي جاء بها الفاسق، بل لو تفحّصنا وقامت البيّنة على أحد طرفيهلحصل التبيّن أيضاً، ولذا لو تفحّص المسلمون عن إخبار «الوليد» بارتداد بنيالمصطلق وامتناعهم عن أداء الصدقة فقامت البيّنة على ذلك فعملوا علىمقتضاها لم يكن عملهم بدون التبيّن، ولم تصدق عليه إصابة قوم بجهالة.
وبالجملة: قيام البيّنة إمّا من مصاديق «التبيّن» المذكور في الآية، أو يقوممقامه، فإذا كان «التبيّن» يعمّ البيّنة عنواناً أو حكماً لم تصدق «الجهالة»المذكورة في التعليل إلاّ فيما إذا فقد العلم والبيّنة كلاهما.
- (1) الكافي 1: 20، كتاب العقل والجهل، الحديث 14.