ج4
و«أكرم الهاشمي» ـ إلاّ أنّه في نظر العالم دائماً يلزم اجتماع المثلين، لأنّ العالم ليحتمل المخالفة ودائماً يرى مصادفة علمه للواقع، فدائماً يجتمع في نظره حكمان،ولا يصلح كلّ من هذين الحكمين لأن يكون داعياً ومحرّكاً لإرادة العبد بحيالذاته، ولا معنى لتشريع حكم لا يصلح الانبعاث(1) عنه ولو في مورد، وفي مثل«أكرم العالم» و«أكرم الهاشمي» يصلح كلّ من الحكمين للباعثيّة بحيال ذاته ولوفي مورد افتراق كلّ منهما عن الآخر، وفي صورة الاجتماع يلزم التأكّد، فلا مانعمن تشريع مثل هذين الحكمين، بخلاف المقام، فإنّه لو فرض أنّ للخمر حكمولمعلوم الخمريّة حكماً، فبمجّرد العلم بخمريّة شيء يعلم بوجوب الاجتنابعنه الذي فرض أنّه رتّب على ذات الخمر، فيكون هو المحرّك والباعثللاجتناب، والحكم الآخر المترتّب على معلوم الخمريّة لا يصلح لأن يكونباعثاً ويلزم لغويّته، وليس له مورد آخر يمكن استقلاله في الباعثيّة، فإنّ العلمبالخمريّة دائماً ملازم للعلم بوجوب الاجتناب عنه المترتّب على الخمرالواقعي، وذلك واضح بعدما كان العالم لا يحتمل المخالفة، فتوجيه خطاب آخرعلى معلوم الخمريّة لا يمكن.
فظهر أنّ القبح الفاعلي بوجه من الوجوه لا يستتبع الخطاب(2)، إنتهىكلامه.
وحاصله: أنّ إصدار خطابين: أحدهما: «لا تشرب الخمر» والآخر: «لتشرب معلوم الخمريّة» يستلزم محذورين:
أ ـ اجتماع حكمين متماثلين دائماً في نظر القاطع.
ب ـ لغويّة الخطاب الثاني، لعدم كونه دخيلاً في الانبعاث والانفعال مع
- (1) الانبعاث هاهنا ليس في مقابل الانزجار، بل المراد منه هو الانفعال من حكم المولى، فيعمّ الأحكامالوجوبيّة والتحريميّة. منه مدّ ظلّه.
(صفحه54)
وجود الخطاب الأوّل.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله هاهن
ويرد على الأوّل: أنّه خلط بين مقام الجعل ومقام الامتثال، فإنّالأحكام تتعلّق في مقام الجعل بالطبائع ـ كما عرفت في مسألة اجتماع الأمروالنهي(1) ـ فالنهي في المقام تعلّق بعنوان «الخمر» في دليل، وبعنوان «معلومالخمريّة» في دليل آخر، وهما عنوانان متغايران بينهما عموم من وجه، فليجتمع في هذا المقام حكمان متماثلان، وأمّا اجتماعهما بنظر المكلّف في مقامالامتثال عندما يريد شرب ما قطع بكونه خمراً فلا يرتبط بالمولى، فإنّ ميرتبط به مقام جعل الحكم وانشائه، لا مقام موافقته وامتثاله، وبين المقامينبون بعيد.
على أنّ نفس المتجرّي الذي اجتمع المثلان بنظره أيضاً يعترف بأنّ النسبةبين الدليلين ـ مع قطع النظر عن هذا المورد الخاصّ الذي هو يبتلي به ـ عموممن وجه، ضرورة أنّا لو سألناه عن النسبة بين عنوان «الخمر» وعنوان«معلوم الخمريّة» ـ مع قطع النظر عن هذا المائع الذي يريد شربه ـ لقال:النسبة بينهما عموم من وجه.
ويرد على الثاني: أنّا لا نسلّم لغويّة الخطاب الثاني بالنسبة إلى جميعالمكلّفين، فإنّ بعض العبيد لا ينبعث إلاّ ببعثين ولا يمتثل التكليف إلاّ عندالخوف من عقوبتين، فيحسب المولى أنّه لو اكتفى بقوله: «أيّها العبيد حرّمتعليكم الخمر» لا يؤثّر إلاّ في بعضهم، ولو ضمّ إليه قوله: «أيّها العبيد حرّمعليكم معلوم الخمريّة» ـ من دون أن يكون الخطاب الثاني مؤكّداً للأوّل، بل
- (1) راجع ص80 من الجزء الثالث.
ج4
يشتمل كلّ منهما على حكم مستقلّ، ويترتّب على عصيان كلّ منهما استحقاقعقوبة مستقلّة ـ لأثّر في بعض آخر أيضاً، فيخاطبهم بكلا الخطابين لأجلالوصول إلى هذا الغرض(1).
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
ذهب المحقّق الخراساني رحمهالله إلى استحالة تحريم التجرّي بواسطة توجيهخطاب خاصّ إلى المتجرّي بمثل عنوان كونه متجرّيّاً(2).
وأمّا إصدار خطاب يعمّ صورة المصادفة والمخالفة، كأن يقال: «لا تشربمعلوم الخمريّة» فهو وإن كان ممكناً في نفسه، إلاّ أنّ المتجرّي لا يقصد الفعلالمتجرّى به إلاّ بما قطع أنّه عليه من عنوانه الواقعي، لا بعنوانه الطارئ،ضرورة أنّه يشرب المائع الذي قطع بخمريّته بعنوان أنّه «خمر» لا بعنوان أنّه«معلوم الخمريّة» بل لا يكون غالباً بهذا العنوان ممّا يلتفت إليه(3).
هذا حاصل ما ذكره في المقام.
البحث حول ما أفاده المحقّق الخراساني رحمهالله
وإيراد المحقّق النائيني رحمهالله عليه بما تقدّم(4) ـ من كون الالتفات إلى العلم منأتمّ الالتفاتات، بل هو عين الالتفات، ومن إمكان أخذ العلم موضوعاً لحكم
- (1) لا يقال: يتمكّن المولى من الوصول إلى هذا الغرض بتكرار الخطاب الأوّل تأكيداً، كأن يقول: «لا تشربالخمر»، «لا تشرب الخمر» من دون أن يحتاج إلى خطابين متغايرين مشتملين على حكمين مستقلّين.
فإنّه يقال: التأكيد قد لا يؤثّر الأثر المطلوب، لأنّ الحكم المؤكّد حكم واحد، ولا يترتّب على مخالفته إلعقوبة واحدة، وبعض العبيد لا يمتثلون أمر المولى إلاّ فيما إذا تعدّدت العقوبة. منه مدّ ظلّه.
- (2) لما تقدّم من زوال التجرّي بمجرّد الالتفات إلى هذا الخطاب. م ح ـ ى.
(صفحه56)
آخر ـ وإن كان تامّاً في الجملة، إلاّ أنّ الوجدان حاكم بأنّ القطع ـ سواءصادف الواقع أو خالفه ـ ملحوظ آلةً لا استقلالاً.
ويشهد عليه أنّك لو قلت لمن يشرب المائع الذي قطع بخمريّته: «ماذتشرب؟» لقال: «أشرب الخمر» ولم يقل: «أشرب معلوم الخمريّة».
لكن يمكن المناقشة في كلام المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّ العناوين المغفول عنهعلى قسمين: أحدهما: ما لو التفت المكلّف إليه لخرج نفسه عن تحته، كعنوان«المتجرّي» و«الناسي» ثانيهما: مالا يكون كذلك، كعنوان «معلوم الخمريّة»فإنّ من قطع بخمريّة مائع وإن لم يلتفت إلى علمه إلاّ بلحاظ آلي، إلاّ أنّه لوالتفت إليه استقلالاً لما خرج عن تحت الخطاب، ضرورة أنّا لو قلنا لمن يشربالمائع الذي قطع بخمريّته: «ماذا تشرب؟» لقال: «أشرب الخمر» ولو سألناهثانياً بقولنا: «هل أنت عالم بأنّ هذا المائع خمر؟» لأجاب بأنّه «نعم، أنا عالمبأنّ هذا المائع خمر» فعلمه بالخمريّة وإن كان عند الجواب عن السؤال الأوّلآلة ومرآةً للعنوان الأوّلي، أعني «الخمر» إلاّ أنّه ملحوظ استقلالاً عند الجوابعن السؤال الثاني، ومع ذلك يعمّه خطاب «لا تشرب معلوم الخمريّة» فيالحالة الثانية كما يعمّه في الحالة الاُولى.
الحقّ في المسألة
والتحقيق يقتضي أن يقال: لا يتصوّر تحريم التجرّي إلاّ بأحد طرق ثلاثةبعضها مستحيل، وبعضها لا قائل به:
الأوّل: أن يتعلّق الحرمة بنفس عنوان «التجرّي».
وفيه: ما عرفت من أنّ الالتفات إلى هذا العنوان يوجب خروج المتجرّيعن كونه كذلك، فلا يمكن أن تتعلّق الحرمة به.
ج4
الثاني: أن يؤخذ العلم في الموضوع، كأن يقال: «لا تشرب معلوم الخمريّة»مع بقاء الخطاب المتعلّق بالعنوان الأوّلي ـ وهو «لا تشرب الخمر» ـ أيضاً علىقوّته.
وفيه ثلاثة احتمالات:
أ ـ أن يكون العلم المأخوذ في الموضوع خصوص ما صادف الواقع.
ب ـ أن يكون خصوص ما خالفه.
ج ـ أن يعمّ الصورتين.
أمّا الأوّل: فلا يجدي المستدلّ، لعدم شموله للتجرّي.
وأمّا الثاني: فلا يلتفت إليه المخاطب أصلاً، لأنّ المتجرّي حال كونه متجرّيلا يرى علمه مخالفاً للواقع، بل لا يحتمل ذلك أصلاً.
فلابدّ من إرادة الاحتمال الثالث(1)، وهو وإن لم يكن مستحيلاً ـ كما عرفتعند البحث حول كلام العلمين المحقّقين الخراساني والنائيني رحمهماالله ـ إلاّ أنّهيستلزم ما لم يلتزم به أحد، بل لا يمكن الالتزام به، وهو صيرورة المعصيةالواقعيّة الواحدة(2) معصيتين واستحقاق من ارتكبها عقوبتين، لمخالفته خطابينمستقلّين: أحدهما: «لا تشرب الخمر» مثلاً، والآخر: «لا تشرب معلومالخمريّة».
إن قلت: لعلّ الخطابين يتداخلان في المقام.
قلت: التداخل يحتاج إلى الدليل، ولا دليل عليه هاهنا بعد أن كان لنحكمان تعلّق كلّ منهما بعنوان غير ما تعلّق به الآخر وكان بينهما عموموخصوص من وجه، فإنّ المكلّف لو خالف كلا الحكمين بارتكاب مجمع
- (1) كما صرّح به المحقق النائيني رحمهالله في فوائد الاُصول 3: 45.
- (2) كما إذا شرب ما قطع بخمريّته وصادف قطعه الواقع. منه مدّ ظلّه.