(صفحه260)
بل رعاية المناسبة بين الحكم والموضوع أيضاً تقتضي أن يكون «نفي الريب»في قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بلحاظ كون مضمون الحديثحكماً واقعيّاً لازم الاتّباع، لا بلحاظ صدوره، وهذا لا يناسب صرف الشهرةفي الرواية والنقل.
والحاصل: أنّ «المجمع عليه» في المقبولة عبارة عن الحديث الذي اشتهرحكمه، بأن ينطبق عليه عمل الأصحاب وفتاواهم.
إن قلت: قول السائل: «فإن كان الخبران عنكم مشهورين قد رواهمالثقات عنكم؟» لا يلائم الشهرة الفتوائيّة، لامتناع كون الخبرين المتعارضينمشهورين من حيث الفتوى، فكيف فرضهما السائل ولم يخطّئه الإمام عليهالسلام فيفرضه؟!
قلت: هذا الإشكال وارد لو كانت الشهرة بمعنى الأكثريّة، وأمّا إذا كانتبمعناها اللغوي ـ أعني «الوضوح والظهور»(1) ـ فلا يمتنع تحقّق الشهرتينالمتخالفتين، ويؤيّده أنّ بعض الفقهاء ـ كالمحقّق والعلاّمة ـ ربما كانوا ينسبونحكماً إلى المشهور وضدّه إلى الأشهر.
نعم، يمكن أن يستشكل على الاستدلال بالمقبولة في المقام بأنّ التعليل الذيلابدّ من تركيز البحث عليه ـ وهو قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لاريب فيه» يدلّ على أنّ الرواية المشهورة من حيث المفاد ومن حيث الفتوى لا ريب فيهمن جهة أنّ مفادها حكم اللّه تعالى(2)، وهذا لا يرتبط بالشهرة المبحوث عنحجّيّتها في المقام، فإنّ الكلام ـ كما عرفت ـ إنّما هو فيما إذا اشتهر الفتوى علىحكم من دون أن يستند إلى دليل ظاهر من آية أو رواية أو أصل، فإنّ
- (1) قال في «المعجم الوسيط»: الشهرة: ظهور الشيء وانتشاره، وقال في «المصباح المنير»: شهرته بينالناس: أبرزته.
- (2) فالشهرة في المقبولة تنطبق على «الشهرة العمليّة» لا على «الشهرة الفتوائيّة» الاصطلاحيّة. م ح ـ ى.
ج4
الإجماع المستند إلى مدرك خاصّ لا قيمة له، فضلاً عن الشهرة، بل لابدّحينئذٍ من ملاحظة مستند الإجماع أو الشهرة لا ملاحظة أنفسهما كما لا يخفى.
تقريب آخر لدلالة المقبولة على حجّيّة الشهرة الفتوائيّة
وهاهنا بيان آخر لاستفادة حجّيّة الشهرة الفتوائيّة من المقبولة، وهو أنّالحكم المعلّق على وصف يشعر بأنّ ذلك الوصف تمام ملاكه، ولا دخلللموصوف فيه، وعلى هذا فتمام الملاك في نفي الريب هاهنا إنّما هو كون الروايةمشهورة من حيث الفتوى، وأمّا نفس الرواية فلا دخل لها فيه، فإذا اشتهرالفتوى على حكم يحكم أيضاً بأنّه لا ريب فيه، ولو لم يكن له مدرك ودليلأصلاً.
بل يمكن دعوى التعميم بإلغاء الخصوصيّة أيضاً، فإنّا كما نقول بعدمخصوصيّة «الرجل» في الأحاديث المرويّة في الشكّ في ركعات الصلاة(1)،ونحكم بشمول الحكم الصادر من قبل الإمام عليهالسلام لكلّ من شكّ في ركعاتها،سواء كان رجلاً أو امرأةً، كذلك نقول بعدم خصوصيّة «الرواية» في المقام،فكما أنّ «الحديث المشهور لاريب فيه» بمقتضى المقبولة، كذلك «الفتوىالمشهور» وإن لم يكن مستنداً إلى دليل ظاهر.
نقد هذا التقريب
لكنّ الإنصاف أنّ إلغاء الخصوصيّة لابدّ من أن يكون بنظر العرف وتأييده،ولقائل أن يقول: إنّ نظر العرف وإن كان يساعد الإلغاء في مثل «رجل شكّ
- (1) وسائل الشيعة 8 : 214 و 216 و 219، كتاب الصلاة، الباب 9 و 10 و 11 من أبواب الخلل الواقعفي الصلاة.
(صفحه262)
بين الثلاث والأربع» إلاّ أنّ موافقته له في المقام مشكوكٌ فيها.
كما أنّه يمكن أن يُقال: لا دليل على حجّيّة الإشعار ما لم يبلغ إلى حدّالظهور، فلا يصحّ الاستدلال على حجّيّة الشهرة الفتوائيّة بكون الحكم المعلّقعلى الوصف في قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» مشعراً بعلّيّته.
حجّيّة الشهرة الفتوائيّة بين القدماء
نعم، إنّ المقبولة لا تقصر عن الدلالة على حجّيّة الشهرة الفتوائيّة عندالقدماء، بخلاف الشهرة عند المتأخِّرين.
والسرّ في ذلك أنّ القدماء كانوا يفتون على طبق الروايات، بل كثيراً مكانوا ينقلون عين ألفاظها بعنوان الفتوى، ولذا سمّيت كتبهم الفقهيّة بالاُصولالمتلقّاة عن المعصومين عليهمالسلام ، وهذه الطريقة كانت تستمرّ إلى زمن الشيخالطوسي رحمهالله ، وكانت العامّة يطعنون على فقهاء الشيعة ويقولون: إنّ الشيعةـ لأجل جمودهم على الروايات المأثورة عن أئمّتهم ـ لا يقدرون علىالاستنباط وبيان أحكام الفروعات، وأمّا نحن فنتمكّن ببركة القياسوالاستحسان على الاجتهاد والتفريع في جميع الموضوعات حتّى في المسائلالمستحدثة.
فالشيخ رحمهالله بعد تأليف كتاب «النهاية» على طريقة القدماء ألّف «المبسوط»الذي هو كتاب تفريعي، ليثبت أنّ استنباط الأحكام وبيان الفروعاتلا يتوقّف على اتّباع مثل القياس والاستحسان، بل الشيعة أيضاً تتمكّن منالاجتهاد والتفريع.
هذا حاصل ما ذكره الشيخ رحمهالله في مقدّمة «المبسوط»(1).
ج4
ثمّ تبعه من تأخّر عنه في تأليف الكتب التفريعيّة وأعرضوا عن طريقةالقدماء. فالشهرة الفتوائيّة بين القدماء مستندة إلى الروايات المأثورة عن أهلالبيت عليهمالسلام ، فتندرج تحت التعليل الوارد في المقبولة الدالّ على أنّ «الروايةالمشهورة من حيث الفتوى لا ريب فيها».
بخلاف الشهرة الفتوائيّة بين المتأخّرين، لأنّ تأليفاتهم مليئة من الفروعاتالفقهيّة المستنبطة، فإذا أفتى المشهور بحكم، لا نعلم كونه مستنداً إلى حديثليصدق عليه «الرواية المشهورة من حيث الفتوى».
كأنّ قائلاً يقول: يمكن تقريب دلالة المقبولة على حجّيّة الشهرةالفتوائيّة حتّى بين المتأخّرين، وذلك لأنّ لفظ «المجمع عليه» وإن كانبمعنى «الرواية المشهورة» في الفقرة الاُولى من المقبولة ـ وهي قوله عليهالسلام : «ينظرإلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي حكما به المجمع عليه من أصحابك» إلاّ أنّه يعمّ الشهرة الفتوائيّة في الفقرة الثانية ـ وهي قوله عليهالسلام : «فإنّ المجمع عليهلا ريب فيه» ـ لأنّه في مقام التعليل، والتعليل يكون بمنزلة كبرى كلّيّة، فكلمة«ال» فيه تفيد العموم، فكأنّه عليهالسلام قال: «انظر إلى الرواية المشهورة بينأصحابك فخذ بها ودع الشاذّ الذي ليس بمشهور عندهم، لأنّ كلّ مشهور لريب فيه».
وبالجملة: التعليل عامّ وإن كان المورد خاصّاً.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في ذلك
وناقش فيه المحقّق النائيني رحمهالله بقوله:
ولا يخفى عليك ضعف الاستدلال؛ لأنّ التعليل ليس من العلّة المنصوصة
(صفحه264)
ليكون من الكبرى الكلّيّة التي يتعدّى عن موردها، فإنّ المراد من قوله: «فإنّالمجمع عليه لاريب فيه» إن كان هو الإجماع المصطلح فلا يعمّ الشهرةالفتوائيّة، وإن كان المراد منه المشهور فلا يصحّ حمل قوله عليهالسلام : «ممّا لا ريبفيه» عليه بقول مطلق، بل لابدّ من أن يكون المراد منه عدم الريب بالإضافةإلى ما يقابله، وهذا يوجب خروج التعليل عن كونه كبرى كلّيّة، لأنّه يعتبر فيالكبرى الكلّيّة صحّة التكليف بها ابتداءً بلا ضمّ المورد إليها، كما في قوله:«الخمر حرام لأنّه مسكر» فإنّه يصحّ أن يُقال: «لا تشرب المسكر» بلا ضمّالخمر إليه، والتعليل الوارد في المقبولة لا ينطبق على ذلك؛ لأنّه لا يصحّ أنيقال: «يجب الأخذ بكلّ ما لا ريب فيه بالإضافة إلى ما يقابله» وإلاّ لزمالأخذ بكلّ راجح بالنسبة إلى غيره وبأقوى الشهرتين وبالظنّ المطلق، وغيرذلك من التوالي الفاسدة التي لا يمكن الالتزام بها، فالتعليل أجنبيّ عن أنيكون من الكبرى الكلّيّة التي لا(1)يصحّ التعدّي عن مورده(2)، إنتهى كلامه.
نقد ما أورده المحقّق النائيني رحمهالله على التعليل
ويمكن أن يُجاب عنه بأنّ التعليل يفيد الكبرى الكلّيّة ويجوز التعدّي عنمورده من دون أن يترتّب عليه ما ذكره من التوالي الفاسدة، وذلك لأنّلا نسلّم أن يكون المراد بـ «عدم الريب» في التعليل عدم الريب الإضافي، بلعدم الريب المطلق.
لكن ليس المراد منه عدم الريب بحسب نظر العقل كي لا يتحمّل احتمالالخلاف أصلاً، بل المراد عدم الريب عرفاً بحيث يعدّ طرفه الآخر شاذّاً نادراً ل
- (1) الظاهر زيادة كلمة «لا» كما قال المصحّح. م ح ـ ى.
- (2) فوائد الاُصول 3: 154.