بل التقوى الكاملة تقتضي القول بإباحتها وجواز ارتكابها.
ولو قيل بشمول التقوى لموارد رجحان الاجتناب ـ كالاجتناب عنمحتمل الحرمة ـ لكان الأمر بالتقوى إرشاديّا أيضا، لأنّ الأمر المولوي إنّما هوالأمر الندبي المتعلّق بنفس الاجتناب عن محتمل الحرمة، لا الأمر المتعلّقبالتقوى.
فقوله تعالى: «اتَّقُوا اللّهَ» أمر إرشادي في موارد المحرّمات والمستحبّاتكلتيهما.
كما أنّ الأمر في قوله تعالى: «أَطِيعُوا اللّهَ» إرشادي، سواء كان ناظرا إلىالواجبات، كالصلوات اليوميّة، أو المستحبّات، كصلاة الليل.
ولا يخفى عليك أنّ الأمر بإطاعة اللّه في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُو
أَطِيعُوا اللّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ»(1) وإن كان إرشاديّا، إلاّ أنّالأمر بإطاعة الرسول واُولي الأمر يكون مولويّا، ولعلّ تكرار لفظ «أَطِيعُوا»كان لأجل اختلافهما في الإرشاديّة والمولويّة، ولذا لم يكرّر عند إسناده إلى«أُوْلِي الاْءَمْرِ» إذ لافرق بين الأمر بإطاعتهم وإطاعة الرسول في المولويّة.
وثالثا: أنّ الأخباريّين لا يقولون بوجوب الاحتياط إلاّ في الشبهاتالحكميّة التحريميّة، وأمّا الشبهات الوجوبيّة ـ سواء كانت حكميّة أوموضوعيّة ـ والشبهات التحريميّة الموضوعيّة فوافق الأخباريّون للاُصوليّين فيجريان أصالة البرائة فيها.
وهذا لا يلائم الاستدلال لوجوب الاحتياط بالآيات الآمرة بالتقوى، لأنّهلو جرت في الشبهات البدويّة لعمّت جميعها، من دون فرق بين التحريميّةوالوجوبيّة، ولا بين الحكميّة والموضوعيّة، فلاوجه للقول بوجوب الاحتياطفي خصوص الشبهات الحكميّة التحريميّة.
إن قلت: نعم، ولكن سائر الشبهات خرجت عن تحت الآيات بالتخصيص.
قلت: أوّلاً: لسان هذا النوع من الآيات آبٍ عن التخصيص.
وثانيا: إخراج ثلاثة أقسام من الشبهات عن تحتها وإبقاء قسم واحد فيهيستلزم التخصيص الأكثر، وهو مستهجن.
فلابدّ من القول بعدم ارتباط هذا النوع من الآيات بالشبهات البدويّة، بلمجراها هو ما إذا اُحرز التكليف من طريق العلم التفصيلي أو الإجمالي، فليصحّ الاستدلال بها في مسألة البرائة.
ومنها: الآيات الناهية عن اتّباع غير العلم، مثل قوله تعالى: «لاَ تَقْفُ مَلَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ»(2).
(صفحه436)
والمراد بـ «العلم» في الآية هو الحجّة الشرعيّة.
والحكم بترخيص الشارع لمحتمل الحرمة هو اتّباع غير العلم وافتراء علىالشارع حيث إنّه لم يؤذن له.
وفيه: أنّ الاُصوليّين لا يقولون في محتمل الحرمة بالإباحة الواقعيّة، بليقولون بالإباحة الظاهريّة، مع الاعتراف بكون الحكم الواقعي مجهولاً، وحيثمعرفت أنّ المراد بـ «العلم» في الآية الشريفة هو الحجّة الشرعيّة فالقول بإباحةمحتمل الحرمة ظاهرا باستناد ما عرفت من أدلّة الاُصوليّين على البرائة ليسقولاً بغير علم.
ولو كان القول بالإباحة الظاهريّة مصداقا للقول بغير العلم، فالقولبالاحتياط أيضا كان كذلك، لأنّ الحكم الواقعي مجهول عند الأخباريّينأيضا، وقولهم بوجوب الاحتياط في مورد الجهل بالحكم الواقعي قول بغيرعلم، وهو منهيّ عنه بقوله تعالى: «لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ».
إن قلت: بين الاُصوليّين والأخباريّين فرق من حيث العمل، فإنّالأخباري ـ الذي يجتنب باستناد أصالة الاحتياط عن مثل شرب التتن الذيهو محتمل الحرمة والإباحة ـ لم يسئل عنه بـ «لم تركت شرب التتن؟» لأنّغايته أن يكون بحسب الواقع مباحا، والعمل بالمباح لا يكون واجبا لكي يقعتاركه موردا للسؤال.
بخلاف الاُصولي ـ الذي يرتكبه باستناد أصالة البرائة ـ فإنّه يسئل عنهبأنّك «لم ارتكبت شرب التتن مع أنّه محتمل الحرمة عندك؟».
قلت: نعم، ولكن لافرق بينهما بحسب الفتوى، فإنّ الأخباري يفتي بوجوبالاحتياط في الشبهات الحكميّة التحريميّة، والاُصولي يفتي بعدم وجوب