في العلم الإجمالي
الأمر السادس: في العلم الإجمالي
وفيه مقامان من البحث:
أحدهما: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي.
ثانيهما: في سقوطه به.
وفي المقام الأوّل جهتان من البحث:
الاُولى: هل تحرم المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي أم لا؟
الثانية: هل تجب الموافقة القطعيّة له أم لا؟
وما هو المبحوث عنه هاهنا إنّما هو الجهة الاُولى، وأمّا الجهة الثانية فيبحثعنها في أصالة الاشتغال.
فنقول:
المقام الأوّل: في ثبوت التكليف بالعلم الإجمالي
وفي هذا المقام احتمالات:
الأوّل: أن لا يكون العلم الإجمالي مؤثّراً في شيء أصلاً، بل كان وجودهكالعدم، فإذا علمنا بوجوب صلاة وشككنا في كونها الظهر أو الجمعة فلا مانعمن إجراء أصالة البراءة في كلتيهما وترك الصلاة رأساً في ظهر يوم الجمعة، وإذ
(صفحه136)
علمنا بخمريّة أحد المايعين وشككنا في كون الكأس الأبيض خمراً أو الأسودفلا مانع من إجراء أصالة الحلّيّة في كليهما وارتكابهما جميعاً.
إن قلت: كيف تجري أصالة الحلّيّة بالنسبة إلى كلا الإنائين، مع أنّه يعلمبشرب الخمر الواقعي بعد ارتكابهما؟!
قلت: إنّه حينما يشرب الإناء الأوّل يشكّ في خمريّته، وحينما يشرب الإناءالثاني أيضاً يشكّ في خمريّته، وبعد ارتكاب كليهما وإن كان يعلم بشرب خمرواقعي، إلاّ أنّ اليقين المتأخّر عن العمل لا يؤثّر في تحقّق المعصية.
والحاصل: أنّالعلمالإجمالي لايؤثّر فيثبوتالحكم أصلاً، لابنحوالعلّيّةالتامّةولا بنحو الاقتضاء، لا في ثبوت الموافقة القطعيّة ولا في حرمة المخالفة القطعيّة.
لكن هذا الاحتمال واضح الفساد، ضرورة أنّه لا فرق عند العقل والعقلاء فيمبغوضيّة الفعل عند المولى بين أن يعلم العبد حين العمل كونه مبغوضاً، وبينأن يعمل عملين يتيقّن بعده بتحقّق المبغوض في الخارج، ألا ترى أنّ ابنالمولى لو كان مردّداً بين شخصين وقتلهما العبد تدريجاً لم يكن معذوراً إذادّعى عدم علمه بقتل ابن المولى حين القتل الأوّل ولا الثاني ولكنّه علمبتحقّق قتله بعد كلا القتلين، فإنّ العقل والعقلاء لا يعدّانه معذوراً بذلك، بليريانه مستحقّاً للعقوبة.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
الثاني: ما اختاره المحقّق الخراساني رحمهالله من أنّ العلم الإجمالي مقتضٍ لثبوتالحكم مؤثّر فيه لولا عروض المانع(1)، فإليك نصّ عبارته:
- (1) والفرق بينه وبين الاحتمال الأوّل أنّ التكليف لا يثبت بالعلم الإجمالي أصلاً بناءً على الاحتمال الأوّل،لكون العلم الإجمالي كالعدم، بخلاف ما اختاره المحقّق الخراساني رحمهالله ، فإنّ التكليف ـ بناءً عليه ـ يثبتبالعلم الإجمالي لو لم يكن مانع شرعي أو عقلي. منه مدّ ظلّه.
ج4
الأمر السابع: أنّه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّةلتنجّزه لا يكاد تناله يد الجعل إثباتاً أو نفياً، فهل القطع الإجمالي كذلك؟ فيهإشكال، لا يبعد أن يقال: إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشافوكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة جاز الإذن من الشارع بمخالفتهاحتمالاً، بل قطعاً.
ومحذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً إنّما هو محذور مناقضة الحكمالظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة بل الشبهة البدويّة، ضرورةعدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والإذن في الاقتحام في مخالفتهبين الشبهات، فما به التفصّي عن المحذور فيهما كان به التفصّي عنه في القطع بهفي الأطراف المحصورة أيضاً كما لا يخفى، وقد أشرنا إليه سابقاً ويأتي إن شاءاللّه مفصّلاً(1).
نعم، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العلّيّة التامّة،فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً، كما كان في أطرافكثيرة غير محصورة، أو شرعاً، كما فيما أذن الشارع في الاقتحام فيها، كما هوظاهر «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منهبعينه»(2).
وبالجملة: قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته مع القطع به بين أطرافمحصورة وعدم صحّتها مع عدم حصرها أو مع الإذن في الاقتحام فيها هو
- (1) قد أشار إلى ما به التفصّي عن المحذور في ذيل الأمر الرابع من الاُمور التي عقدها لبيان أحكام القطعوأقسامه، ويأتي تفصيله في مسألة التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي، وحاصله: أنّه لابأس باجتماعالحكم الواقعي الفعلي ـ بمعنى أنّه لو قطع به لتنجّز عليه واستحقّ على مخالفته العقوبة ـ مع حكم آخرفعلي في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة. م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 17: 87 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(صفحه138)
كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز لا علّة تامّة.
وأمّا احتمال أنّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعيّة وبنحوالعلّيّة بالنسبة إلى الموافقة الاحتماليّة وترك المخالفة القطعيّة فضعيف جدّاً،ضرورة أنّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا يكونعدم القطع بذلك معهما(1) موجباً لجواز الإذن في الاقتحام، بل لو صحّ معهما(2)الإذن في المخالفة الاحتماليّة صحّ في القطعيّة أيضاً، فافهم.
ولا يخفى أنّ المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أنّ المناسب في بابالبراءة والاشتغال بعد الفراغ هاهنا عن أنّ تأثيره بنحو الاقتضاء لا العلّيّة هوالبحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً وعدم ثبوته، كما لا مجال بعد البناء علىأنّه بنحو العلّيّة للبحث عنه هناك أصلاً كما لا يخفى(3)، إنتهى كلامه.
وفيه: أنّ مفروض البحث هو العلم الإجمالي المتعلّق بالتكليف الفعلي ـ كمصرّح به في عنوان البحث من الكفاية، حيث قال: «قد عرفت كون القطعالتفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّة لتنجّزه لا يكاد تناله يد الجعل إثباتاً أونفياً، فهل القطع الإجمالي كذلك» ـ وأمّا ما تعلّق بالحكم الاقتضائي أوالإنشائي(4) فهو خارج عن محلّ الكلام، لعدم كونه موجباً لتنجّز التكليف ولوكان تفصيليّاً، كما قال: «ثمّ لا يذهب عليك أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعثوالزجر لم يصر فعليّاً، وما لم يصر فعليّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاقالعقوبة على المخالفة»(5).
- (1 ، 2) أي مع الموافقة الاحتماليّة وترك المخالفة القطعيّة. م ح ـ ى.
- (3) للحكم مراتب أربع عند المحقّق الخراساني رحمهالله : الاقتضاء والإنشاء والفعليّة والتنجّز. م ح ـ ى.