ج4
الأمر السابع: أنّه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّةلتنجّزه لا يكاد تناله يد الجعل إثباتاً أو نفياً، فهل القطع الإجمالي كذلك؟ فيهإشكال، لا يبعد أن يقال: إنّ التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشافوكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة جاز الإذن من الشارع بمخالفتهاحتمالاً، بل قطعاً.
ومحذور مناقضته مع المقطوع إجمالاً إنّما هو محذور مناقضة الحكمالظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة بل الشبهة البدويّة، ضرورةعدم تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والإذن في الاقتحام في مخالفتهبين الشبهات، فما به التفصّي عن المحذور فيهما كان به التفصّي عنه في القطع بهفي الأطراف المحصورة أيضاً كما لا يخفى، وقد أشرنا إليه سابقاً ويأتي إن شاءاللّه مفصّلاً(1).
نعم، كان العلم الإجمالي كالتفصيلي في مجرّد الاقتضاء لا في العلّيّة التامّة،فيوجب تنجّز التكليف أيضاً لو لم يمنع عنه مانع عقلاً، كما كان في أطرافكثيرة غير محصورة، أو شرعاً، كما فيما أذن الشارع في الاقتحام فيها، كما هوظاهر «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منهبعينه»(2).
وبالجملة: قضيّة صحّة المؤاخذة على مخالفته مع القطع به بين أطرافمحصورة وعدم صحّتها مع عدم حصرها أو مع الإذن في الاقتحام فيها هو
- (1) قد أشار إلى ما به التفصّي عن المحذور في ذيل الأمر الرابع من الاُمور التي عقدها لبيان أحكام القطعوأقسامه، ويأتي تفصيله في مسألة التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي، وحاصله: أنّه لابأس باجتماعالحكم الواقعي الفعلي ـ بمعنى أنّه لو قطع به لتنجّز عليه واستحقّ على مخالفته العقوبة ـ مع حكم آخرفعلي في مورده بمقتضى الأصل أو الأمارة. م ح ـ ى.
- (2) وسائل الشيعة 17: 87 ، كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
(صفحه138)
كون القطع الإجمالي مقتضياً للتنجّز لا علّة تامّة.
وأمّا احتمال أنّه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعيّة وبنحوالعلّيّة بالنسبة إلى الموافقة الاحتماليّة وترك المخالفة القطعيّة فضعيف جدّاً،ضرورة أنّ احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا يكونعدم القطع بذلك معهما(1) موجباً لجواز الإذن في الاقتحام، بل لو صحّ معهما(2)الإذن في المخالفة الاحتماليّة صحّ في القطعيّة أيضاً، فافهم.
ولا يخفى أنّ المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أنّ المناسب في بابالبراءة والاشتغال بعد الفراغ هاهنا عن أنّ تأثيره بنحو الاقتضاء لا العلّيّة هوالبحث عن ثبوت المانع شرعاً أو عقلاً وعدم ثبوته، كما لا مجال بعد البناء علىأنّه بنحو العلّيّة للبحث عنه هناك أصلاً كما لا يخفى(3)، إنتهى كلامه.
وفيه: أنّ مفروض البحث هو العلم الإجمالي المتعلّق بالتكليف الفعلي ـ كمصرّح به في عنوان البحث من الكفاية، حيث قال: «قد عرفت كون القطعالتفصيلي بالتكليف الفعلي علّة تامّة لتنجّزه لا يكاد تناله يد الجعل إثباتاً أونفياً، فهل القطع الإجمالي كذلك» ـ وأمّا ما تعلّق بالحكم الاقتضائي أوالإنشائي(4) فهو خارج عن محلّ الكلام، لعدم كونه موجباً لتنجّز التكليف ولوكان تفصيليّاً، كما قال: «ثمّ لا يذهب عليك أنّ التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعثوالزجر لم يصر فعليّاً، وما لم يصر فعليّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاقالعقوبة على المخالفة»(5).
- (1 ، 2) أي مع الموافقة الاحتماليّة وترك المخالفة القطعيّة. م ح ـ ى.
- (3) للحكم مراتب أربع عند المحقّق الخراساني رحمهالله : الاقتضاء والإنشاء والفعليّة والتنجّز. م ح ـ ى.
ج4
ولاريب في أنّه لا يمكن أن يتحقّق تكليف فعلي معلوم ومع ذلك أجازالمولى في مخالفته، فلا يمكن الجمع بين تحريم الخمر الواقعة بين الإنائين بحرمةفعليّة بالغة مرتبة الزجر بمقتضى الأدلّة الأوّليّة وبين تحليلها بمقتضى قاعدةالحلّيّة، فإنّه جمع بين النقيضين، ولا فرق في ذلك بين الترخيص في المخالفةالقطعيّة والاحتماليّة، فإنّ تجويز ارتكاب أحد الإنائين القابل للانطباق على مهو خمر في الواقع يناقض حرمتها الفعليّة، كتجويز ارتكاب كليهما.
نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في المقام
الثالث: ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمهالله من أنّ العلم الإجمالي علّة تامّةبالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة ومقتضٍ بالنسبة إلى وجوب الموافقةالقطعيّة(1).
الحقّ في المسألة
والتحقيق يقتضي اختيار ما عليه المشهور من كونه علّة تامّة بالنسبة إلىكلتا المرتبتين: حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعيّة.
وذلك لحكم العقل والعقلاء بأنّ العبد إذا قطع بصدور تكليف فعلي من قبلالمولى متعلّق إمّا بهذا العمل أو بذاك وكان قادراً على موافقته بلا عسر ولحرج بإتيان كليهما في الشبهات الوجوبيّة والاجتناب عنهما في الشبهاتالتحريميّة كانت الموافقة عليه واجبة، ولا يجوز له المخالفة الاحتماليّة، فضلاً عنالقطعيّة، لأنّ فعليّة التكليف المعلوم بالإجمال تقتضي وجوب الجري على طبقه
- (1) نسب هذا القول إلى الشيخ الأعظم رحمهالله في حاشية المشكيني على الكفاية. راجع كفاية الاُصول المحشّى3: 121. م ح ـ ى.
(صفحه140)
على كلّ حال ومع وصف تردّد متعلّقه بين شيئين أو أشياء، ألا ترى أنّ المولىإذا قال لعبده: «أكرم زيداً» وكان زيد مردّداً بين شخصين عاقبه المولى لو تركإكرام كليهما، بل وكذلك إذا أكرم أحدهما وكان الآخر زيداً في الواقع، ولم يقبلعذره بأنّ موضوع التكليف كان مردّداً بين شخصين.
فعلى هذا لا تكاد تجري الاُصول العمليّة في بعض أطراف العلم الإجمالي،فضلاً عن جميعها، لعدم جواز ترخيص الشارع في مخالفة التكليف الفعليالمعلوم بالإجمال.
لايقال: إنّ المقام نظير مسألة اجتماع الأمر والنهي، لأنّ الشارع حكم بحرمةالخمر مثلاً بمقتضى الأدلّة الأوّليّة وحكم بحلّيّة مشكوك الخمريّة بمقتضىالاُصول العمليّة، والنسبة بين متعلّقي الحكمين ـ وهما عنوانا «الخمر»و«مشكوك الخمريّة» ـ هي العموم من وجه، لتصادقهما على الخمر المشكوكخمريّتها، وتفارقهما في الخمر المعلومة والماء الذي شكّ في كونه ماءً أو خمراً.
فكما أنّ التحقيق كان يقتضي جواز اجتماع الأمر والنهي الفعليّين في الصلاةفي الدار المغصوبة بدعوى أنّ الأمر تعلّق بعنوان والنهي بعنوان آخر وكان بينالعنوانين عموم من وجه وقد تصادقا على الصلاة في الدار المغصوبة، فكذلكالأمر في المقام طابق النعل بالنعل، فيمكن تجويز ارتكاب كلا الإنائين الذينعلم خمريّة أحدهما، فضلاً عن تجويز ارتكاب أحدهما، واجتماع الحرمةوالحلّيّة في الخمر المعلومة بالإجمال نظير اجتماع الوجوب والحرمة في الصلاةفي الدار المغصوبة.
فإنّه يقال: بين المسألتين بون بعيد، فإنّ الأمر والنهي في مسألة الاجتماعتعلّقا بعنوانين مستقلّين لا يرتبط أحدهما بالآخر ولا يكون حكم أحدهمناظراً إلى حكم الآخر أصلاً، فإنّ الصلاة واجبة، سواء حرّم الغصب أو لم
ج4
يحرّم، والغصب حرام، سواء وجبت الصلاة أو لم تجب، بل لو كان المولى منالموالي العرفيّة لم يلتفت إلى الغصب حين الأمر بالصلاة ولا إلى الصلاة حينالنهي عن الغصب، إلاّ أنّهما تصادقا على عمل واحد في الخارج الذي هو ظرفالإطاعة والعصيان وسقوط التكليف لا ظرف تعلّق الحكم وثبوته.
بخلاف المقام، فإنّ الحكم بحلّيّة مشكوك الخمريّة ناظر إلى الحكم بحرمةالخمر، فهو في مقام رفع هذا الحكم عن بعض مصاديق الخمر، وهو ما شكّالمكلّف في خمريّته، ولا يمكن الجمع بينه وبين العلم بحرمته الفعليّة.
إن قلت: لا ريب في أنّ الحكم بحرمة الخمر كما يعمّ الخمر المعلومةبالتفصيل وبالإجمال كذلك يعمّ الخمر المشكوكة بالشكّ البدوي، ولا ريبأيضاً في أنّ الاُصول العمليّة تجري في الشبهات البدويّة، فما الفرق بينها وبينالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، حيث يرفع اليد عن الحكم بحرمة الخمربمثل قاعدة الحلّيّة في الاُولى دون الثانية؟!
قلت: الفرق بينهما أنّ الحكم الفعلي معلوم في موارد العلم الإجمالي، فلايمكنجعل حكم مخالف له، بخلاف موارد الشبهة البدويّة، فإنّ الحكم الفعليمشكوك فيها، والشارع يرفعه على فرض وجوده، وسيجيء مزيد بيان له فيمبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي إن شاء اللّه تعالى.
وبالجملة: كلّ واحد من الحكمين مستقلّ عن الآخر في مسألة الاجتماع،بخلاف الاُصول العمليّة التي تكون ناظرة إلى أدلّة الأحكام الواقعيّة.
على أنّ الحكمين في مسألة الاجتماع كلاهما حكمان واقعيّان في عرضواحد، من دون أن يكون أحدهما متقدّماً على الآخر، بخلاف ما نحن فيه، فإنّالحرمة المتعلّقة بأحد الإنائين الذين علم إجمالاً خمريّة أحدهما حرمة واقعيّة،ولكن حلّيّة مشكوك الخمريّة المستفادة من قاعدة الحلّيّة حكم ظاهري،