ج4
إن قلت: إذا كان البعث بوجوده العلمي مقتضياً للانبعاث فما الداعيإلىإتيان كلّ واحد من أطراف العلم الإجمالي، مع أنّه لا علم للعبد بالبعثإليه؟
قلت: البعث معلوم، وإن كان المبعوث إليه مردّداً بين أمرين أو أكثر، ولفرق في ترتّب الانبعاث على البعث المعلوم بين موارد العلم التفصيليوالإجمالي(1).
هذا حاصل ما أفاده الإمام رحمهالله ، وهو كلام متين.
السادس: أنّ تكرار العبادة مع التمكّن من الامتثال التفصيلي يستلزم اللعببأمر المولى، وهو ينافي رعاية مقام العبوديّة والمولويّة، فلا يمكن أن يتحقّقالإطاعة به.
وفيه أوّلاً: أنّه لا يصدق اللعب على الاحتياط فيما إذا كان لداعٍ عقلائي كمفي المقام، فإنّ الاجتهاد وتحصيل العلم التفصيلي بحكم بعض العبادات ـ كصلاةالجمعة ـ مشكل يوجب صرف الوقت الكثير، ويمكن التخلّص منه بتركالاستنباط والجمع بين صلاتي الظهر والجمعة.
على أنّ الاجتهاد لا يوصلنا غالباً إلى العلم الوجداني بالأحكام، بلغايته حصول الظنّ بها من طريق الأمارات المعتبرة، مع أنّ غرض المكلّف قديتعلّق بتحصيل العلم بتحقّق المأمور به واقعاً، فيحتاط بإتيان كلّ ما يحتملانطباقه عليه من أطراف العلم الإجمالي حتّى فيما إذا سهل الاجتهاد وانجرّاجتهاده إلى وجوب واحد منها، ولا يكاد يحكم العقل بعدم جواز الاحتياط
- (1) نعم، إطاعة أولياء اللّه ليست ناشئة عن الشوق إلى الثواب أو الخوف من العقاب، بل عن كونه تعالى أهلللعبادة كما نصّ عليه أمير المؤمنين عليهالسلام ، وأمّا عامّة الناس فلا يعبدونه إلاّ طمعاً في جنّته أو خوفاً من ناره.منه مدّ ظلّه.
- (2) تهذيب الاُصول 2: 360.
(صفحه152)
بداعي تحصيل ما هو المأمور به واقعاً على كلّ حال، بل يحكم بحسنه ومدحفاعله.
والحاصل: أنّ الاحتياط إذا كان لغرض عقلائي ـ كالفرار من صعوبةالاجتهاد أو تحصيل العلم الوجداني بوقوع المأمور به ـ لا يستلزم اللعبوالاستهزاء أصلاً.
وثانياً: أنّ هذا اللعب ليس لعباً بأمر المولى، بل في كيفيّة إطاعته، ولا ضيرفيه، ألا ترى أنّه إذا تحقّق قصد القربة في أصل العبادة فلا يضرّ دخل بعضالدواعي النفسانيّة في خصوصيّاتها، كالتوضّي بالماء البارد في الصيف وبالماءالمسخّن في الشتاء واختيار المكان الملائم للطبع للصلاة؟
والحاصل: أنّ الامتثال العلمي الإجمالي لا يتأخّر عن الامتثال التفصيلي،بل كلاهما عند العقل في رتبة واحدة.
هذا تمام الكلام في العلم الإجمالي، وبه تمّ مباحث القطع.
ج4
(صفحه154)
في إمكان التعبّد بالظنّ
الظنّ
وقد حان وقت التكلّم فيما هو المهمّ من عقد هذا المقصد، وهو الظنّ.
ولنبحث عنه في ذيل اُمور ثلاثة:
الأمر الأوّل: في إمكان التعبّد بالظنّ
لا ريب في أنّ الأمارة غير العلميّة ليست كالقطع في الحجّيّة الذاتيّة، فهليمكن(1) جعل الحجّيّة لها أم لا؟
ذهب المشهور إلى الأوّل، وابن قبة ومن تبعه إلى الثاني.
ما استدلّ به على الإمكان وكلام الشيخ الأنصاري رحمهالله في ذلك
قال الشيخ الأعظم رحمهالله في رسائله:
استدلّ المشهور على الإمكان بأنّا نقطع بأنّه لا يلزم من التعبّد به محال.
وفي هذا التقرير نظر، إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف علىإحاطة العقل بجميع الجهات المحسّنة والمقبّحة وعلمه بانتفائها(2)، وهو غير
- (1) المراد بالإمكان هاهنا هو كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال، ويعبّر عنه بالإمكانالوقوعي، ويقابله الاستحالة الوقوعيّة التي هي عبارة عن كون الشيء غير ممتنع بحسب ذاته وماهيّته، إلأنّه يلزم من فرض وقوعه محال. منه مدّ ظلّه.
- (2) أي انتفاء الجهات المقبّحة. م ح ـ ى.
ج4
حاصل فيما نحن فيه.
فالأولى أن يقرّر هكذا: إنّا لا نجد في عقولنا بعد التأمّل ما يوجبالاستحالة، وهذا(1) طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان(2)، إنتهى كلامه.
كلام المحقّق صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
وناقش فيه المحقّق الخراساني رحمهالله بثلاثة اُمور:
أ ـ منع استقرار سيرة العقلاء على الحكم بإمكان الشيء عند احتمالامتناعه.
ب ـ منع اعتبار هذه السيرة؛ لعدم قيام دليل قطعي عليه، والتمسّك بالظنّلإثبات اعتبارها يستلزم الدور؛ لأنّ الكلام الآن في إمكان وامتناع التعبّدبالمظنّة التي من مصاديقها هذا الظنّ.
ج ـ أنّه لا يترتّب على النزاع في إمكان التعبّد بالظنّ واستحالته ثمرة عمليّةما لم يثبت وقوعه، وإذا ثبت وقوعه فلم نحتج لإثبات إمكانه إلى أمر آخر،لأنّ أدلّ دليل على إمكان شيء وقوعه.
وأمّا الإمكان في كلام الشيخ الرئيس: «كلّما قرع سمعك من الغرائبفذره في بقعة الإمكان ما لم يذدك(3) عنه واضح البرهان» فلا يرتبطبالمقام، لأنّا نبحث في أنّ التعبّد بالظنّ هل يتّصف واقعاً بالإمكانالوقوعي، فلا يترتّب عليه تالٍ باطل، أو بالاستحالة الوقوعيّة، فيترتّبعليه ذلك.
- (1) هذه الجملة جواب عن سؤال مقدّر، كأنّ قائلاً يقول: عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، فأجابعنه: بأنّ العقلاء لا يلتزمون لإثبات إمكان الشيء بلزوم قيام دليل قطعي عليه، بل يحكمون به بمجرّد عدموجدان برهان على امتناعه. منه مدّ ظلّه.
- (2) فرائد الاُصول 1: 106.
- (3) ذاده: دفعه وطرده. م ح ـ ى.