بالنجاسة، ثمّ يشكّ في بقائها بعد زوال تغيّره من قبل نفسه، فيقلّده ثانياً فيعدم الظفر في هذا الحال بدليل يقتضي طهارته أو نجاسته، فيستقرّ شكّه،فيحصل بالنسبة إليه كلا ركني الاستصحاب، وهما «اليقين السابق» و«الشكّاللاحق» فيتوجّه إليه خطاب «لا تنقض اليقين بالشكّ».
غاية الأمر ينوب عنه المجتهد في بيان مضمون هذا الخطاب، ويفتيه بنفسالاستصحاب الذي هو مفاد «لا تنقض» لا بالحكم ببقاء النجاسة.
نقد ما ذكره المحقّق العراقي رحمهالله في المقام
وفيه أوّلاً: أنّ التفرقة بين المراحل الثلاث ـ بتحقّق التقليد في المرحلتينالاُوليين والنيابة في المرحلة الأخيرة ـ أمر غير مأنوس في نفسه.
وثانياً: أنّ السيرة العمليّة عند المتشرّعة على خلاف ذلك، فإنّ المقلّدينيرجعون إلى المجتهدين أو إلى رسالتهم العمليّة ويأخذون منهم نفس الأحكامالفرعيّة، ولم يعهد من الفقهاء ـ عند رجوع العامّي إليهم ـ الإفتاء بالحكمالاُصولي.
وثالثاً: أنّ النيابة خلاف القاعدة، فلا يمكن الالتزام بها ما لم يقم دليل علىمشروعيّتها، ألا ترى أنّه لا يجوز النيابة في مثل الصلاة والصيام مادام المنوبعنه حيّاً؟
والحاصل: أنّ المراد بـ «المكلّف» خصوص المجتهد، كما صرّح به المحقّقالنائيني تبعاً لظاهر كلام المحقّق الخراساني رحمهماالله .
البحث حول أنّ التقسيم الصحيح هل يكون ثلاثيّاً أو ثنائيّاً
الثانية: أنّالتقسيمالثلاثي الذي ذهب إليه الشيخ رحمهالله يستلزم تداخل الأقسام.
توضيح ذلك: أنّ الظاهر من «الظنّ» في كلامه هو الظنّ الشخصي، لكونه في
(صفحه18)
مقابل القطع والشكّ الذين لا يتصوّر نوعيّتهما.
وحينئذٍ فإن حصل الظنّ الشخصي من طريق غير معتبر اقتضى كلامه أنيجري عليه أحكام الظنّ، وهو خلاف ما عليه الاُصوليّون من أنّه بحكم الشكّ،فلابدّ من إجراء الاُصول العمليّة فيه.
ولو انعكس الأمر، بأن قام عند شخص أمارة معتبرة على حكم، لوجبعليه العمل بها وإن لم يحصل له الظنّ به، لأنّ من قال بحجّيّة الأمارات بملاكالظنّ أراد الظنّ النوعي لا الشخصي.
وبعبارة اُخرى: إن قام دليل على اعتبار الظنّ فهو ملحق بالعلم، وإلفملحق بالشكّ، فلا يصحّ تثليث الأقسام.
جواب المحقّق النائيني رحمهالله عن الإشكال
وأجاب عنه المحقّق النائيني رحمهالله بأنّ عقد البحث في الظنّ إنّما هو لأجل تميّزالظنّ المعتبر الملحق بالعلم عن الظنّ الغير المعتبر الملحق بالشكّ، فلابدّ منتثليث الأقسام، ثمّ البحث عن حكم الظنّ من حيث الاعتبار وعدمه، نعم،لازم اعتباره هو أن يكون كالعلم، كما أنّ لازم عدم اعتباره هو أن يكونكالشكّ(1)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه.
وحاصله: أنّ تثليث الأقسام في كلام الشيخ رحمهالله إنّما هو توطئة للدخول فيالمباحث الثلاثة للكتاب، ولم يرد به تقسيماً واقعيّاً.
نقد ما ذكره المحقّق النائيني دفاعاً عن الشيخ رحمهماالله
وفيه: أنّ التقسيم المذكور في بداية الكتاب بمنزلة أساس البحث، فلا يجوز
ج4
أن يتسامح فيه، على أنّ بعض ما في كلامه رحمهالله من الخصوصيّات ـ مثل لزوملحاظ الحالة السابقة في مجرى الاستصحاب(1) ـ قرينة على عنايته بالواقعيّاتفي هذا التقسيم.
فإشكال تداخل الأقسام وارد على كلام الشيخ رحمهالله .
الثالثة: أنّ «الحكم» في قوله رحمهالله : «إنّ المكلّف إذا التفت إلى حكم شرعي»ظاهر في خصوص الحكم الواقعي، لأنّه قسّم المكلّف الملتفت إليه إلى قاطعوظانّ وشاكّ، وحكم على الثاني بالرجوع إلى الأمارات المعتبرة، وعلى الثالثبالرجوع إلى الاُصول العمليّة، ولا ريب في أنّ من قامت عنده أمارة معتبرةشرعيّة على وجوب صلاة الجمعة مثلاً، أو تمسّك باستصحاب وجوبها، كانقاطعاً بالحكم الظاهري، وإن كان ظانّاً أو شاكّاً في الحكم الواقعي، فتقسيمالمكلّف الملتفت إلى الحكم الشرعي إلى قاطع وظانّ وشاكّ، لا يتصوّر إلاّ إذاُريد من الحكم خصوص الواقعي منه، مع أنّ أحكام القطع لا تختصّ بالقطعالمتعلّق بالأحكام الواقعيّة، فإنّها أحكام مطلق القطع بالحكم.
كلام صاحب الكفاية رحمهالله في المقام
ولأجل ما ذكر ـ من استلزام كلام الشيخ رحمهالله تداخل الأقسام وتخصيصآثار القطع بما تعلّق بالواقعي من الأحكام ـ عدل عنه المحقّق الخراساني رحمهالله إلىتقسيم ثنائي مع تصريحه بتعميم متعلّق القطع، فقال:
إنّ البالغ الذي وضع عليه القلم إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهريمتعلّق به أو بمقلّديه، فإمّا أن يحصل له القطع به أولا، وعلى الثاني لابدّ من
- (1) حيث قال بعد تقسيم «المكلّف» إلى الأقسام الثلاثة: فإن حصل له الشكّ فالمرجع فيه هي القواعدالشرعيّة الثابتة للشاكّ في مقام العمل، وتسمّى بالاُصول العمليّة، وهي منحصرة في الأربعة، لأنّ الشكّ إمّأن يلاحظ فيه الحالة السابقة أم لا... فالأوّل مجرى الاستصحاب. م ح ـ ى.
(صفحه20)
انتهائه إلى ما استقلّ به العقل من اتّباع الظنّ لو حصل له وقد تمّت مقدّماتالانسداد على تقدير الحكومة، وإلاّ فالرجوع إلى الاُصول العقليّة من البراءةوالاشتغال والتخيير على تفصيل يأتي في محلّه إنشاء اللّه تعالى(1)، إنتهى.
وتوضيحه: أنّ من وضع عليه القلم إن حصل له القطع بالحكم الشرعيالواقعي، كما إذا قام عنده دليل قطعي السند والدلالة على وجوب صلاةالجمعة في عصر الغيبة، أو الظاهري، كما إذا قام عنده ظنّ خاصّ أو ظنّ مطلقعلى تقدير الكشف، أو أصل عملي شرعي، كأصالتي الحلّيّة والطهارةوالاستصحاب وأصالتي البراءة والاحتياط الشرعيّتين ، يجب عليه العمل به،وإن لم يحصل له القطع بالحكم الشرعي الواقعي ولا الظاهري، فإن استقلّالعقل بحجّيّة مطلق الظنّ ـ كما إذا تمّت مقدّمات الانسداد على تقديرالحكومة(2) ـ فعليه اتّباعه، وإلاّ فلابدّ له الرجوع إلى الاُصول العمليّة العقليّةمن البراءة والاشتغال العقليّين والتخيير.
نقد ما ذكره المحقق الخراساني رحمهالله
واستشكل عليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله بوجهين:
الأوّل: قوله رحمهالله : لكن يرد عليه أنّ لازم ذلك دخول تمام مسائل الظنّوالشكّ إلاّ الاُصول الثلاثة العقليّة في مسائل القطع، فإنّ المسائل المفصّلة الآتيةفي الكتاب تفصيل هذا التقسيم الإجمالي المذكور في أوّله، وإلاّ يصير التقسيملغواً باطلاً، فبناءً على توسعة دائرة القطع وإطالة ذيله حتّى يشمل كلّ
- (2) «الحكومة» هاهنا عبارة عن حكم العقل مستقلاًّ بوجوب اتّباع الظنّ من دون أن يستند إلى الشارع،بخلاف «الكشف» فإنّه عبارة عن استكشاف كون الظنّ حجّة شرعيّة عند تماميّة مقدّمات الانسداد.منه مدّ ظلّه.
ج4
المباحث، تصير كلّيّة المباحث مبحثاً وحيداً هو مبحث القطع، مع أنّ مباحثالظنّ والشكّ من أعظم المباحث الاُصوليّة، وهي العمدة في المباحث العقليّة،والقول بدخولها في مبحث القطع كلام لا يرضى به اُصولي.
وإنّما خصّصنا الاستثناء بالاُصول الثلاثة مع جعله قدسسره الظنّ على الحكومةمقابل القطع، فلأنّ الظنّ على الحكومة لا يكون مقابله، بل هو في الحقيقة منمسائل العلم الإجمالي، إلاّ أنّ دائرته أوسع من العلم الإجمالي المذكور فيمباحث القطع والاشتغال، وكون دائرة المتعلّق أوسع منه غير دخيل في الجهةالمبحوث عنها، كما لا يخفى على المتأمّل(1).
الثاني: قوله: ثم إنّ لنا بناءً على ما ذكره قدسسره أن ندرج كلّيّة المباحث حتّىمبحث الاُصول العقليّة في القطع، بأن نجعل متعلّق القطع هو وظيفة المكلّف،فتصير المباحث العقليّة(2) كلّها مبحثاً فريداً هو مبحث القطع، لكن هذا ممّا ليرضى به الوجدان الصحيح(3)، إنتهى موضع الحاجة من كلامه قدسسره .
ويمكن أن يناقش في كلام صاحب الكفاية رحمهالله بوجه ثالث أيضاً:
وهو أنّه رحمهالله اعترف في محلّه بأنّ الشارع لم يجعل حكماً واقعيّاً ولا ظاهريّاً فيمورد الأمارات المعتبرة الشرعيّة، بل جعلها حجّة، ولا معنى للحجّيّة إلالمنجّزيّة والمعذّريّة، فإذا دلّ طريق شرعي معتبر على وجوب صلاة الجمعةمثلاً كان منجّزاً للواقع لو صادفه، ومعذّراً لو خالفه، من دون أن يجعل علىطبق مؤدّاه حكم ظاهري(4).
وأمّا الاُصول الشرعيّة فلسان أدلّة بعضها جعل حكم ظاهري في مورده،
- (2) «الاُصوليّة» صحيحة ظاهراً. م ح ـ ى.
- (4) كما أنّ القطع أيضاً كذلك، غاية الأمر أنّ الحجّيّة في القطع ذاتيّة، وفي الأمارات مجعولة. منه مدّ ظلّه.