ج4
وأمّا المحذور الثالث ـ أعني ما يرتبط بمبادئ الحكم الصادر من قبلالمولى ـ فهو أنّه يلزم من جعل الحجّيّة لخبر الواحد اجتماع الضدّين من الإرادةوالكراهة أو الحبّ والبغض فيما إذا دلّ خبر الواحد على وجوب ما هو حرامواقعاً أو بالعكس.
والجواب عنه يتوقّف على تحقيق حول مراتب الحكم وبيان المراد منها.
مراتب الأحكام الشرعيّة
صرّح المحقّق الخراساني رحمهالله في حاشيته على فرائد الاُصول بأنّ للحكممراتب أربع: الاقتضاء، والإنشاء، والفعليّة، والتنجّز.
لكن أكثر من تأخّر عنه قال بأنّ له مرتبتين: الإنشاء، والفعليّة.
وفسّر المحقّق الخراساني رحمهالله الاقتضاء بمرتبة من الحكم يكون فيها مناطهومقتضيه.
والإنشاء بمرتبة جعل صورة الحكم من قبل المولى من دون أن يشتملعلى بعث أو زجر.
والفعليّة بما إذا بلغ ذلك الحكم الصوري إلى مرتبة البعث والزجر.
والتنجّز بما إذا وصل الحكم الفعلي من طريق العلم أو العلمي إلى المكلّف،فاستحقّ العقوبة على مخالفته، بخلاف الحكم الاقتضائي والإنشائي، إذ الحكمما لم يصر فعليّاً لم يكد يبلغ مرتبة التنجّز واستحقاق العقوبة على مخالفته.
نقد كلام المحقّق الخراساني رحمهالله
وفيه أوّلاً: أنّه لا يصحّ القول بكون الاقتضاء والتنجّز من مراتب الحكم،فإنّ الحكم ـ سواء كان من الأحكام الشرعيّة أو العقلائيّة ـ أمرٌ اعتباريمجعول، والاقتضاء أمرٌ حقيقي تكويني متقدّم عليه ومقتضٍ له، فلا يمكن أن
(صفحه174)
يكون من مراتبه.
كما أنّ التنجّز ـ الذي فسّره باستحقاق العقوبة على مخالفة الحكم ـ منالأحكام العقليّة المترتّبة على الحكم المتأخّرة عنه، فإنّ العقل هو الذي يحكمبأنّ المكلّف يستحقّ العقوبة لو خالف الحكم الفعلي الواصل إليه بالعلم أوالعلمي، فالتنجّز ليس حكماً شرعيّاً، بل حكم عقلي متأخّر عنه.
وثانياً: أنّ الحكم الإنشائي لو كان صوريّاً غير مشتمل على البعث والزجرـ كما فسّره به ـ فلو قلنا بعدم تحقّق الوجوب والحرمة الإنشائيّين في هذهالمرتبة فلم يصحّ عدّها من مراتب الحكم، ولو قلنا بتحقّقهما فلم يصحّ خلوّالإنشاء عن البعث والزجر، لأنّ الإيجاب والتحريم عبارتان عن البعثوالزجر الاعتباريّين، كما حقّقناه في مبحثي مفاد صيغة «افعل» و«لا تفعل» منمباحث الأوامر والنواهي.
وبالجملة: لا يمكن تصوّر حكم وجوبي أو تحريمي خالٍ عن البعث والزجرالمقوّمين للوجوب والحرمة لكي يصحّ القول بالفرق بين الحكم الفعليوالإنشائي ببلوغ الأوّل مرتبة البعث والزجر دون الثاني.
كلام الإمام رحمهالله حول الحكم الإنشائي والفعلي
والحقّ ما ذهب إليه سيّدنا الاُستاذ الأعظم الإمام رحمهالله في تفسير الحكمالإنشائي والفعلي.
وهو أنّ الشارع حيث سلك طريقة العقلاء في مقام التقنين جعل ابتداءًأحكاماً كلّيّة متعلّقة بموضوعات عامّة، ثمّ بيّن مخصّصاتها ومقيّداتها بأدلّةمنفصلة(1)، والأحكام الإنشائيّة هي تلك القوانين الكلّيّة التي تعلّقت به
- (1) وانفصال القيود في القوانين العقلائيّة يكون أحياناً لأجل جهلهم حين التقنين بجميع المصالحوالمفاسد، وفي القوانين الشرعيّة لأجل مصالح اُخر كما تقدّم في مبحث العامّ والخاصّ. منه مدّ ظلّه.
ج4
الإرادة الاستعماليّة، والأحكام الفعليّة هي ما بقي تحتها بعد ورود المخصّصاتوالمقيّدات.
فحلّيّة البيع المستفادة من قوله تعالى: «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ»(1) حكم إنشائيعامّ يرجع إليه في موارد الشكّ في التخصيص، وما بقي تحته بعد إخراج البيعالربوي والغرري وغيرهما من موارد الاستثناء يكون حكماً فعليّاً مرادبالإرادة الجدّيّة(2).
هذا حاصل ما أفاده الإمام رحمهالله ، وهو كلام متين.
كلام المحقّق الخوئي رحمهالله في تفسير الحكم الإنشائي والفعلي
وذهب بعض الأعلام رحمهالله ـ على ما في تقريرات بحثه ـ إلى أنّ الحكمالإنشائي ما جعل بنحو القضيّة الحقيقيّة التي تشمل الأفراد المحقّقة الوجودوالمقدّرة الوجود، فما دام الموضوع لم يوجد بتمام قيوده كان الحكم إنشائيّاً، وإذوجد يصير فعليّاً، فوجوب الحجّ المستفاد من قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِحِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(3) يكون إنشائيّاً قبل تحقّق الاستطاعةوفعليّاً بعده(4).
هذا حاصل ما أفاده بعض الأعلام رحمهالله ، والظاهر أنّه أخذه من بعض مشايخهالعظام.
نقد كلام المحقّق الخوئي رحمهالله
- (2) تهذيب الاُصول 2: 377.
- (4) راجع محاضرات في اُصول الفقه 2: 267، و4: 6.
(صفحه176)
وفيه أوّلاً: أنّه خلاف ما تقدّم من سيرة العقلاء في التقنين.
وثانياً: أنّ تصوير القضيّة الحقيقيّة يختصّ بمثل آية الحجّ المتقدّم ذكرهومثل «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ»(1) ونحوهما ممّا لم يشتمل على الخطاب،وأمّا ما اشتمل عليه من أدلّة الأحكام، نحو «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ»(2)فلا تتصوّر فيها القضيّة الحقيقيّة إلاّ بتأويلها إلى جملة خبريّة، بأن يقال: يرجعالآية إلى قولنا: «المكلّف يجب عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة» فالحكم قبلصيرورة الإنسان واجداً لشرائط التكليف يكون إنشائيّاً، وبعدها يصير فعليّاً.
وأمّا بناءً على ما اخترناه تبعاً للإمام رحمهالله في تفسير الحكم الإنشائي والفعليفلا ملزم للالتزام بمثل هذا التأويل والتوجيه في الجمل الإنشائيّة المشتملة علىالخطاب.
وثالثاً: أنّ فعليّة الحكم وإنشائيّته لو كان أمرهما دائراً مدار وجودالموضوع خارجاً وعدمه لأشكل الجمع بين العامّ والخاصّ وبين المطلقوالمقيّد، فإنّ البيع الغرري مثلاً إذا تحقّق في الخارج لابدّ من أن يكون محكومبحلّيّة فعليّة بمقتضى «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وأن لا يكون كذلك بمقتضى «نهى النبيّعن بيع الغرر»(3).
وأمّا إذا فسّرناالحكم الإنشائي بما اُريد بمراد استعمالي وجعل بنحو الضابطةالكلّيّة التي يرجع إليها عند الشكّ في التخصيص والتقييد، والحكم الفعلي بمتعلّق به الإرادة الجدّيّة وهو ما بقي تحت تلك الضابطة بعد ورود المخصّصات
- (3) ورد في الحديث: «نهى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عن بيع المضطرّ وعن بيع الغرر». وسائل الشيعة 17: 448، كتابالتجارة، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.
ج4
والمقيّدات فلا تعارض بين العامّ والخاصّ ولا بين المطلق والمقيّد أصلاً.
الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
إذا عرفت هذا فنقول: يمكن الجواب عن محذور لزوم اجتماع الإرادةوالكراهة أو الحبّ والبغض على فرض حجّيّة خبر الواحد بما يقتضيه التحقيقفي التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي، وهو يتّضح بملاحظة ما يجاب به فيباب التزاحم.في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
توضيح ذلك: أنّه لا يجوز للمولى إلزام العبد برعاية كلا المتزاحمين، لعدمقدرته على ذلك، بل لابدّ له من امتثال الأمر بالأهمّ لو كان، وإلاّ فهو مخيّر فيامتثال أيّهما شاء، والأمر الآخر وإن سقط فعلاً، إلاّ أنّ سقوطه ليس لأجل فقدالملاك، فإنّ الملاك موجود فيه، بل لعدم تمكّن العبد من امتثاله بعد صرفقدرته في المزاحم الآخر، فلا يترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة، لكنّه لوكان متمكِّناً من امتثال كليهما لوجب عليه؛ لوجود الملاك فيهما.
ويمكن الجواب بمثله عن إشكال الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، فإنّالمكلّف حينما كان جاهلاً بالأحكام الواقعيّة إلاّ في موارد قليلة، وكانالاحتياط التامّ في جميعها شاقّاً عليه، بل موجباً للهرج والمرج واختلال النظاموتنفّر كثير من الناس من أساس الإسلام اضطرّ الشارع إلى جعل مثل خبرالثقة طريقاً إلى الأحكام الواقعيّة، مع العلم بأنّه يخالفها أحياناً، والواقع وإنكان محكوماً بحكم فعلي لاشتماله على الملاك، إلاّ أنّ الشارع لم يلزم المكلّفبرعايته عند خطأ الأمارة، بل جعله معذوراً في مخالفته حينئذٍ لأجل تلكالمصلحة الأقوى الباعثة له على جعل حجّيّتها.
والحاصل: أنّ الشارع كما اضطرّ إلى رفع اليد عن رعاية الحكم الفعلي في