(صفحه176)
وفيه أوّلاً: أنّه خلاف ما تقدّم من سيرة العقلاء في التقنين.
وثانياً: أنّ تصوير القضيّة الحقيقيّة يختصّ بمثل آية الحجّ المتقدّم ذكرهومثل «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ»(1) ونحوهما ممّا لم يشتمل على الخطاب،وأمّا ما اشتمل عليه من أدلّة الأحكام، نحو «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَءَاتُواْ الزَّكَوةَ»(2)فلا تتصوّر فيها القضيّة الحقيقيّة إلاّ بتأويلها إلى جملة خبريّة، بأن يقال: يرجعالآية إلى قولنا: «المكلّف يجب عليه إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة» فالحكم قبلصيرورة الإنسان واجداً لشرائط التكليف يكون إنشائيّاً، وبعدها يصير فعليّاً.
وأمّا بناءً على ما اخترناه تبعاً للإمام رحمهالله في تفسير الحكم الإنشائي والفعليفلا ملزم للالتزام بمثل هذا التأويل والتوجيه في الجمل الإنشائيّة المشتملة علىالخطاب.
وثالثاً: أنّ فعليّة الحكم وإنشائيّته لو كان أمرهما دائراً مدار وجودالموضوع خارجاً وعدمه لأشكل الجمع بين العامّ والخاصّ وبين المطلقوالمقيّد، فإنّ البيع الغرري مثلاً إذا تحقّق في الخارج لابدّ من أن يكون محكومبحلّيّة فعليّة بمقتضى «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» وأن لا يكون كذلك بمقتضى «نهى النبيّعن بيع الغرر»(3).
وأمّا إذا فسّرناالحكم الإنشائي بما اُريد بمراد استعمالي وجعل بنحو الضابطةالكلّيّة التي يرجع إليها عند الشكّ في التخصيص والتقييد، والحكم الفعلي بمتعلّق به الإرادة الجدّيّة وهو ما بقي تحت تلك الضابطة بعد ورود المخصّصات
- (3) ورد في الحديث: «نهى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله عن بيع المضطرّ وعن بيع الغرر». وسائل الشيعة 17: 448، كتابالتجارة، الباب 40 من أبواب آداب التجارة، الحديث 3.
ج4
والمقيّدات فلا تعارض بين العامّ والخاصّ ولا بين المطلق والمقيّد أصلاً.
الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
إذا عرفت هذا فنقول: يمكن الجواب عن محذور لزوم اجتماع الإرادةوالكراهة أو الحبّ والبغض على فرض حجّيّة خبر الواحد بما يقتضيه التحقيقفي التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي، وهو يتّضح بملاحظة ما يجاب به فيباب التزاحم.في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي
توضيح ذلك: أنّه لا يجوز للمولى إلزام العبد برعاية كلا المتزاحمين، لعدمقدرته على ذلك، بل لابدّ له من امتثال الأمر بالأهمّ لو كان، وإلاّ فهو مخيّر فيامتثال أيّهما شاء، والأمر الآخر وإن سقط فعلاً، إلاّ أنّ سقوطه ليس لأجل فقدالملاك، فإنّ الملاك موجود فيه، بل لعدم تمكّن العبد من امتثاله بعد صرفقدرته في المزاحم الآخر، فلا يترتّب على مخالفته استحقاق العقوبة، لكنّه لوكان متمكِّناً من امتثال كليهما لوجب عليه؛ لوجود الملاك فيهما.
ويمكن الجواب بمثله عن إشكال الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي، فإنّالمكلّف حينما كان جاهلاً بالأحكام الواقعيّة إلاّ في موارد قليلة، وكانالاحتياط التامّ في جميعها شاقّاً عليه، بل موجباً للهرج والمرج واختلال النظاموتنفّر كثير من الناس من أساس الإسلام اضطرّ الشارع إلى جعل مثل خبرالثقة طريقاً إلى الأحكام الواقعيّة، مع العلم بأنّه يخالفها أحياناً، والواقع وإنكان محكوماً بحكم فعلي لاشتماله على الملاك، إلاّ أنّ الشارع لم يلزم المكلّفبرعايته عند خطأ الأمارة، بل جعله معذوراً في مخالفته حينئذٍ لأجل تلكالمصلحة الأقوى الباعثة له على جعل حجّيّتها.
والحاصل: أنّ الشارع كما اضطرّ إلى رفع اليد عن رعاية الحكم الفعلي في
(صفحه178)
أحد المتزاحمين لأجل عدم تمكّن العبد من امتثال كليهما، كذلك اضطرّ إلى رفعاليد عنها في موارد خطأ الأمارة لأجل جهل المكلّف بالواقع وكون الاحتياطفي جميع الموارد مستلزماً لتلك التبعات.
وبعبارة اُخرى: ملاك تقدّم التعبّد بالمظنّة على إلزام الاحتياط التامّ هو عينملاك تقدّم الأهمّ على المهمّ في باب المتزاحمين، فكما أنّ إزالة النجاسة عنالمسجد أهمّ من الصلاة في سعة وقتها فتتقدّم عليها، كذلك التعبّد بالمظنّة أهمّمن الاحتياط فيتقدّم عليه، فلا فرق بين ما نحن فيه وبين باب التزاحم منجهة ملاك التقدّم، وإن كان مجرى ذلك الباب هو الموارد الجزئيّة، بخلافمسألة التعبّد بالمظنّة التي ترتبط بالعناوين الكلّيّة.
وهذا هو ملاك حجّيّة بعض الأمارات ـ كخبر الثقة ـ عند العقلاء أيضاً،فإنّهم يرون أنّ تحقّق العلم الوجداني بالاُمور المبتلى بها قليل جدّاً، فلو انحصرالطريق إليها بالعلم بها لاختلّ نظام معاشهم، فالتجأوا إلى التمسّك بالأمارات.
هذا هو نخبة القول في الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.
وهاهنا أقوال اُخر:
نظريّة الشيخ الأنصاري رحمهالله في المسألة ونقده
1ـ ما ذهب إليه الشيخ الأعظم رحمهالله ، من أنّ الحكمين ليسا في مرتبة واحدة،بل في مرتبتين، ضرورة تأخّر الحكم الظاهري ـ سواء كان مستفاداً منالأمارات أو الاُصول ـ عن الواقعي بمرتبتين، لكونه متأخّراً عن الشكّ فيالحكم الواقعي، والشكّ فيه متأخّر عنه، فلا يجتمع الحكمان(1).
- (1) ما وجدنا هذا القول في رسائل الشيخ الأعظم رحمهالله ، نعم، قال المحقّق المشكيني رحمهالله في حاشية الكفاية: هذهو الجمع المنقول عن السيّد محمّد الاصفهاني «قدّس سرّه الشريف». كفاية الاُصول المحشّى 3: 183.م ح ـ ى.
ج4
واعترضعليه تلامذته الذين منهم المحقّق الخراساني رحمهالله بأنّالحكمالظاهريوإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي إلاّ أنّه يكون في مرتبة الحكم الظاهري،لعدم اختصاص الحكم الواقعي بالعالم به، بل يعمّ الشاكّ فيه أيضاً، فعلى تقديرالمنافاة بين الحكمين لزم اجتماع الحكمين في مرتبة الحكم الظاهري(1).
كلام صاحب الكفاية في المقام وردّه
2ـ ما قال به المحقّق الخراساني رحمهالله في خصوص الأمارات، من أنّ التعبّدبطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيّته، والحجّيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاءأحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطريق، بل إنّما تكون موجبة لتنجّزالتكليف به إذا أصاب، وصحّة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقتهتجرّياً وانقياداً مع عدم إصابته كما هو شأن الحجّة الغير المجعولة، فلا يلزماجتماع حكمين مثلين أو ضدّين ولا طلب الضدّين ولا اجتماع المفسدةوالمصلحة ولا الكراهة والإرادة كما لا يخفى(2).
ويرد عليه أنّ حجّيّة الأمارات وإن لم تكن بمعنى جعل حكم مماثل أومضادّ للحكم الواقعي، بل الحكم منحصر فيه والأمارة لا تقتضي إلاّ تنجّزهعند الإصابة ومعذوريّة المكلّف في مخالفته عند الخطأ، إلاّ أنّ محذور المنافاةبين الحكم الواقعي والظاهري لا يختصّ بما إذا جعل حكم شرعي ظاهريمطابق لمؤدّى الأمارات، بل بقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه وترخيصالشارع في تركه ـ كما يقتضيه حجّيّة الأمارة المخطئة ـ أمران متنافيان أيضاً.
نظريّة السيّد الفشاركي في المسألة ونقده
(صفحه180)
3ـ ما أفاده السيّد المحقّق المدقّق الفشاركي رحمهالله ـ على ما نقله تلميذه المحقّقالحائري قدسسره ـ من عدم المنافاة بين الحكمين إذا كان الملحوظ في موضوع الآخرالشكّ في الأوّل، وتوضيحه: أنّه لا إشكال في أنّ الأحكام لا تتعلّق ابتداءًبالموضوعات الخارجيّة، بل إنّما تتعلّق بالمفاهيم المتصوّرة في الذهن، لكن لمن حيث كونها موجودة في الذهن، بل من حيث إنّها حاكية عن الخارج،فالشيء ما لم يتصوّر في الذهن لا يتّصف بالمحبوبيّة والمبغوضيّة، وهذا واضح،ثمّ إنّ المفهوم المتصوّر تارةً يكون مطلوباً على نحو الإطلاق، واُخرى على نحوالتقييد، وعلى الثاني فقد يكون لعدم المقتضي في ذلك المقيّد(1)، وقد يكونلوجود المانع، مثلاً قد يكون عتق الرقبة مطلوباً على سبيل الإطلاق، وقديكون الغرض في عتق الرقبة المؤمنة خاصّة، وقد يكون في المطلق، إلاّ أنّ عتقالرقبة الكافرة منافٍ لغرضه الآخر، ولكونه منافياً لذلك الغرض لابدّ أن يقيّدالعتق المطلوب بما إذا تحقّق في الرقبة المؤمنة، فتقييد المطلوب في القسم الأخيرإنّما هو من جهة الكسر والانكسار، لا لتضييق دائرة المقتضي، وذلك موقوفعلى تصوّر العنوان المطلوب أوّلاً مع العنوان الآخر المتّحد معه في الوجودالمخرج له عن المطلوبيّة الفعليّة، فلو فرضنا عنوانين غير مجتمعين في الذهنبحيث يكون المتعقّل أحدهما لا مع الآخر فلا يعقل تحقّق الكسر والانكساربين جهتيهما، فاللازم من ذلك أنّه متى تصوّر العنوان الذي فيه جهة المطلوبيّةيكون مطلوباً صرفاً من دون تقييد، لعدم تعقّل منافيه، ومتى تصوّر العنوانالذي فيه جهة المبغوضيّة يكون مبغوضاً كذلك؛ لعدم تعقّل منافيه، كما هوالمفروض.
والعنوان المتعلّق للأحكام الواقعيّة مع العنوان المتعلّق للأحكام الظاهريّة
- (1) «في غير ذلك المقيّد» صحّ ظاهراً. م ح ـ ى.