(صفحه182)
اُخرى: صلاة الجمعة التي كانت متصوّرة في مرتبة كونها موضوعة للوجوبالواقعي لم تكن مقسماً لمشكوك الحكم ومعلومه، والتي تتصوّر في ضمنمشكوك الحكم تكون مقسماً لهما، فتصوّر ما كان موضوعاً للحكم الواقعيوالظاهري معاً يتوقّف على تصوّر العنوان على نحو لا ينقسم إلى القسمينوعلى نحو ينقسم إليهما، وهذا مستحيل في لحاظ واحد، فحينئذٍ نقول: متىتصوّر الآمر صلاة الجمعة بملاحظة ذاتها تكون مطلوبة، ومتى تصوّرهبملاحظة كونها مشكوك الحكم(1) تكون متعلّقة لحكم آخر، فافهم وتدبّر فإنّهلا يخلو من دقّة(2)، إنتهى.
والفرق بينه وبين القول الأوّل أنّ حلّ الإشكال في القول الأوّل يكونمستنداً إلى اختلاف رتبة الحكمين، وهاهنا إلى تغاير الموضوعين.
نقد كلام السيّد الفشاركي رحمهالله
ويرد عليه أوّلاً: أنّه مبنيّ على امتناع أخذ القيود المتوقّفة على الأمر فيموضوعه، فلا يصحّ التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبارها، لأنّ الإطلاق يتوقّفعلى إمكان التقييد.
وأمّا بناءً على ما حقّقناه في مبحث التعبّدي والتوصّلي من إمكان أخذهفيه فلا يمتنع التمسّك بالإطلاق.
توضيح ذلك: أنّ ما هو متأخّر عن الأمر إنّما هو وجود هذا النوع منالقيود خارجاً، حيث إنّ المكلّف لا يقدر على أن يأتي بالصلاة مثلاً بداعيأمرها إلاّ بعد تعلّق الأمر بها، لكنّ الأحكام لا تتعلّق بموضوعاتها بوجوداته
- (1) «مشكوكة الحكم» صحيحة ظاهراً. م ح ـ ى.
ج4
الخارجيّة، بل بعناوينها التي تصوّرها الحاكم وأوجدها في ذهنه، ولا ريب فيإمكان تصوّر الموضوع بجميع أجزائها وشرائطها حتّى القيود المتوقّفة فيوجودها الخارجي على الأمر، فإنّ الحاكم حينما يريد أن يأمر بالصلاة يتمكّنمن تصوّر جميع ما له دخل في حصول الغرض منها من الركوع والسجودوالتكبيرة وسائر أجزائها وشرائطها حتّى قيد «إتيانها بداعي أمرها»، ومنقال بامتناع أخذ هذا النحو من القيود في متعلّق الأمر خلط بين وجودهالخارجي والذهني، فإنّ الأوّل يتوقّف على الأمر دون الثاني.
وعلى هذا فكما أنّ الآمر يتمكّن من أن يتصوّر مع صلاة الجمعة حالاتهالتي يمكن أن تتّصف بها قبل الحكم ـ مثل كونها في المسجد أو الدار ـ كذلكيتمكّن من أن يتصوّر معها الأوصاف المتأخّرة عنه ـ ككونها معلومة الحكمأو مشكوكته ـ فكيف يمكن أن تكون صلاة الجمعة في الواقع واجبة مطلقـ سواء علم بوجوبها أو شكّ فيه ـ ومع ذلك يرخّص الشارع في تركها بمقتضىالأمارة المخطئة؟!
وثانياً: أنّا نمنع أن يكون الشكّ في الحكم متأخّراً عن ذلك الحكم المشكوك،ضرورة أنّه خلاف ما نجده في أنفسنا، فإنّا كثيراً ما نشكّ في وجوب شيء، معأنّه لم يكن واجباً في الواقع.
على أنّ الالتزام بتوقّف الشكّ على ثبوت المشكوك يستلزم انقلابه إلىاليقين، فإنّ من شكّ في وجوب صلاة الجمعة مثلاً لو اعتقد أنّ الشكّ لا يتحقّقإلاّ بعد تحقّق المشكوك صار عالماً بوجوبها بصرف الشكّ فيه(1).
وثالثاً: سلّمنا استحالة أخذ القيود المتأخّرة عن الحكم في موضوعه في مقام
- (1) وتقدّم نظير هذا الإشكال عند المناقشة في كلام صاحب الكفاية في كتاب القطع، حيث قال: القطعمتأخّر عن المقطوع متفرّع عليه، فأوردنا عليه بأنّ القطع كثيراً ما يكون جهلاً مركّباً، فكيف يتوقّفوجوده على وجود المقطوع؟ على أنّه يستلزم أن لا يكون لنا قطع مخالف للواقع أصلاً. منه مدّ ظلّه.
(صفحه184)
الإثبات ودلالة الدليل، لكنّ الحكم في الواقع ومقام الثبوت لا يخلو إمّا أنيكون مجعولاً لخصوص العالم به أو يعمّ العالم والجاهل كليهما، إذ لا يتطرّقالإهمال أو الإجمال في مقام الثبوت، وحيث إنّ اختصاصه بالعالم يستلزمالتصويب الذي قام الإجماع والأخبار المتواترة على بطلانه فلابدّ من أن يؤخذموضوع الحكم في مقام الثبوت لا بشرط، فيعمّ العالم بالحكم والشاكّ فيه، بلوالعالم بضدّه، فصلاة الجمعة التي حكم الشارع بوجوبها واقعاً لم تتقيّد بقيد فيمقام الثبوت، فهي واجبة سواء كانت معلومة الحكم أو مشكوكته، فإذا قامتالأمارة على عدم وجوبها اجتمع حكمان متنافيان في موضوع واحد، وهوصلاة الجمعة المشكوكة الحكم، فأين تغاير موضوع الحكمين الذي ادّعاه هذالسيّد المحقّق الجليل رحمهالله ؟!
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المسألة
4ـ ما ذهب إليه المحقّق النائيني رحمهالله لحلّ الإشكال، حيث قال:
والتحقيق في الجواب هو أن يقال: إنّ الموارد التي توهّم وقوع التضادّ بينالأحكام الظاهريّة والواقعيّة على أنحاء ثلاثة:
أحدها: موارد قيام الطرق والأمارات المعتبرة على الخلاف.
ثانيها: موارد مخالفة الاُصول المحرزة(1) للواقع.
ثالثها: موارد تخلّف الاُصول الغير المحرزة عن الواقع.
والتفصّي عن الإشكال يختلف بحسب اختلاف المجعول في هذه المواردالثلاثة، ويختصّ كلّ منها بجواب يخصّه، فينبغي إفراد كلّ منها بالبحث.
كلام المحقّق النائيني رحمهالله في باب الأمارات
- (1) سيأتي المراد من الاُصول المحرزة وغير المحرزة. م ح ـ ى.
ج4
ثمّ قال:
أمّا في باب الطرق والأمارات فليس المجعول فيها حكماً تكليفيّاً حتّىيتوهّم التضادّ بينه وبين الحكم الواقعي، بناءً على ما هو الحقّ عندنا: من أنّالحجّيّة والطريقيّة من الأحكام الوضعيّة المتأصّلة بالجعل وممّا تنالها يد الوضعوالرفع ابتداءً ولو إمضاءً، لما تقدّمت الإشارة إليه: من أنّه ليس فيما بأيدينا منالطرق والأمارات ما لا يعتمد عليه العقلاء في محاوراتهم وإثبات مقاصدهم،بل هي عندهم كالعلم لا يعتنون باحتمال مخالفة الطريق للواقع، وليس اعتمادهمعليها من باب الاحتياط ورجاء إدراك الواقع، لأنّه ربما يكون طرف الاحتمالتلف النفوس والأموال وهتك الأعراض، فلو كان اعتمادهم على الطرق لمحضرجاء إدراك الواقع لكان الاحتياط بعدم الاعتماد عليها في مثل هذه الموارد ممّيكون خطر المخالفة عظيماً، فإقدامهم على العمل بالطرق والأمارات والاعتمادعليها مع هذا الاحتمال ليس إلاّ لمكان تنزيل احتمال المخالفة منزلة العدم وكأنّهلم يكن مع وجوده تكويناً.
فلا يقال: لعلّ اعتمادهم عليها لمكان حصول العلم لهم منها، فإنّ ذلك ممّيكذّبه الوجدان، لوضوح وجود احتمال مخالفة الطريق للواقع في أنفسهم، ومعذلك يعتمدون عليها في إثبات مقاصدهم، لمكان أنّ الطرق عندهم من حيثالإتقان والاستحكام كالأسباب المفيدة للعلم، وليس عند العقلاء جعل وتعبّدوتشريع، حتّى يقال: إنّ المجعول عندهم ما يكون منشأً لانتزاع هذا الاعتباروالحجّيّة، بل نفس الحجّيّة والوسطيّة في الإثبات أمرٌ عقلائي قابل بنفسهللاعتبار من دون أن يكون هناك ما يكون منشأً للانتزاع من حكم تكليفي.
فالأقوى أنّ الحجّيّة والوسطيّة في الإثبات بنفسها ممّا تنالها يد الجعلبتتميم كشفها، فإنّه لابدّ في الأمارة من أن يكون لها جهة كشف عن الواقع
(صفحه186)
كشفاً ناقصاً، فللشارع تتميم كشفها ولو إمضاءً بإلغاء احتمال الخلاف في عالمالتشريع، كما ألغى احتمال الخلاف في العلم في عالم التكوين، فكأنّ الشارعأوجد في عالم التشريع فرداً من العلم، وجعل الطريق محرزاً للواقع كالعلمبتتميم نقص كشفه وإحرازه، ولذا قامت الطرق والأمارات مقام العلم المأخوذفي الموضوع على وجه الطريقيّة، كما تقدّم تفصيله.
وإذ قد عرفت حقيقة المجعول في باب الطرق والأمارات وأنّ المجعول فيهنفس الوسطيّة في الإثبات، ظهر لك: أنّه ليس في باب الطرق والأمارات حكمحتّى ينافي الواقعي ليقع في إشكال التضادّ أو التصويب، بل ليس حال الأمارةالمخالفة إلاّ كحال العلم المخالف، فلا يكون في البين إلاّ الحكم الواقعي فقطمطلقاً، أصاب الطريق الواقع أو أخطأ، فإنّه عند الإصابة يكون المؤدّى هوالحكم الواقعي، كالعلم الموافق، ويوجب تنجيز الواقع وصحّة المؤاخذة عليه،وعند الخطأ وعدم الإصابة يوجب المعذوريّة وعدم صحّة المؤاخذة عليه،كالعلم المخالف، من دون أن يكون هناك حكم آخر مجعول(1).
إنتهى موضع الحاجة من كلامه ملخّصاً.
وأساسه يرجع إلى الكلام المتقدِّم من المحقّق الخراساني رحمهالله ، من أنّ التعبّدبطريق غير علمي إنّما هو بجعل حجّيّته، والحجّيّة المجعولة غير مستتبعة لإنشاءأحكام تكليفيّة بحسب ما أدّى إليه الطريق.
نقد ما أفاده المحقّق النائيني رحمهالله في رفع الغائلة عن الأمارات
والجواب الأصلي هو الجواب المتقدِّم هناك.
لكن ينبغي البحث حول نكات اُخر من كلامه: بعضها صحيحة وبعضه
- (1) فوائد الاُصول 3: 105.