ولكنّه مع ذلك يتكلّم في جميع مقاصده من الاُصول والفروع والترغيبوالترهيب والإنذار والتبشير وغيرها بما يتكلّم به عقلاء العرب، فإنّه كتابمنزّل بلسانٍ عربي مبين، فلا منافاة بين كونه معجزة خالدة وبين تبيينهمقاصده بطريقة العقلاء، كما سيأتي إن شاء اللّه.
كما أنّ كون كلام المعصومين عليهمالسلام في أعلى درجات الاستحكام والفصاحةوالبلاغة أيضاً لا يقتضي أن يكون لهم طريقة اُخرى غير طريقة العقلاء فيمقام الإفادة والاستفادة.
بل كانوا يتكلّمون مع الناس بالألفاظ المتعارفة بينهم، ولذا كانويستفيدون من كلماتهم كمال الاستفادة وينجذبون إليها كمال الانجذاب، ألترى أنّ أمير المؤمنين عليهالسلام حيث قطع الخطبة الشقشقيّة لأجل النظر إلى كتاببعض أهل السواد، قال له ابن عبّاس «عليه الرحمة»: يا أمير المؤمنين لواطّردت(3) خطبتك من حيث أفضيت(4)، فقال عليهالسلام : «هيهات يابن عبّاس، تلكشقشقةٌ(5) هدرت(6) ثمّ قرّت(7)» قال ابن عبّاس: فواللّه ما أسفت على كلامٍ قطّ
كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليهالسلام بلغ منه حيث أراد(1).
والحاصل: أنّه لا شبهة في لزوم اتّباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده فيالجملة.
نعم، يتوقّف حجّيّة الظواهر على اُمور بعضها من خصوصيّات كلامالشارع وبعضها تشترك بين كلامه وكلام سائر العقلاء:
الأوّل: إحراز صدور الكلام.
لا إشكال في ثبوت صدور الكتاب العزيز والسنّة المتواترة.
إنّما الإشكال فيما بأيدينا من الأخبار الآحاد، فإنّا حيث لم ندرك زمنالمعصومين عليهمالسلام ولم نأخذ هذه الأخبار من أفواههم الطيّبة مباشرةً، فبأيّطريق نلتزم بصدورها منهم عليهمالسلام ؟
هذا يتوقّف على حجّيّة خبر الواحد، وسيأتي البحث عنها.
الثاني: أصل ظهور الألفاظ والكلمات في المعاني، وهو الذي يعبّر عنهبالدلالة التصوّريّة.
وهذا يتوقّف على الوضع أوّلاً، وعلى العلم بالموضوع له ثانياً(2)، ضرورةأنّ اللفظ لو كان من المهملات التي لم توضع لمعنى، أو كان من الموضوعاتولكنّ السامع لم يعلم بما وضع له، لم ينتقل ذهنه عند سماعه إلى شيء أصلاً.
نعم، لا تتوقّف هذه الدلالة على كون المتكلّم مريداً للمعنى جدّاً، فإنّ الذهنينتقل إلى معنى اللفظ الموضوع، ولو كان لافظه هازلاً أو نائماً، بل ولو سمع من
- (1) هدرت: أطلقت صوتاً كصوت البعير عند إخراج الشقشقة من فيه.
- (2) قرّت: سكنت وهدأت.
استخرجت معاني هذه اللغات الخمسة من آخر نهج البلاغة للدكتور صبحي الصالح. م ح ـ ى.
- (3) نهج البلاغة: 50، ذيل الخطبة 3.
- (4) وعلى عدم إجمال اللفظ ثالثاً، فإنّ الألفاظ المشتركة لا ظهور لها إذا استعملت بلا قرينة معيّنة، ولو كانجميع ما وضعت له من المعاني معلومة لنا. م ح ـ ى.
ج4
بعض الطيور المعتادة بتلفّظ بعض الكلمات الموضوعة.
ولابدّ لإثبات الظهور وتعيين الدلالة التصوريّة من استخدام علائم الحقيقةوالمجاز، من التبادر وعدم صحّة السلب ونحوهما.
وأمّا قول اللغويّين فلا يعتمد عليه، لأنّهم يبيّنون نوعاً موارد استعمالالألفاظ من دون تعيين كون الاستعمال بنحو الحقيقة أو المجاز.
الثالث: إحراز استعمال الألفاظ في المعاني، وهو الذي يعبّر عنه بالدلالةالتصديقيّة الاستعماليّة.
وهذا يتوقّف ـ مضافاً إلى الوضع والعلم بالموضوع له ـ على أمرين آخرين:
أ ـ أن يكون اللفظ مسموعاً من لافظ ذي شعور قاصد لتفهيم المرادالاستعمالي، لا من مثل النائم أو الطائر.
نعم، لا منافاة بين الهزل وبين هذه المرحلة من الدلالة التصديقيّة، فإنّالهزل ينافي الإرادة الجدّيّة لا الاستعماليّة، فإنّ من مازح صديقه بقوله: «أنتضيفي غداً بأكل الحلويّات والأطعمة اللذيذة» استعمل الألفاظ في معانيهوأراد تفهيم تلك المعاني لصديقه، لكنّه هازل مازح به، فالإرادة الاستعماليّةمتحقّقة هاهنا دون الإرادة الجدّيّة.
ب ـ عدم قرينة متّصلة على خلاف الموضوع له، فإنّ اللفظ إذا كان مقرونبما يصرفه إلى المعنى المجازي لم تنعقد له دلالة تصديقيّة استعماليّة على المعنىالحقيقي، ولا فرق في ذلك بين ما ذهب إليه المشهور في باب المجاز من كونهعبارةً عن استعمال اللفظ في غير ما وضع له، وبين ما اخترناه من كونه عبارةعن استعماله فيما وضع له بادّعاء توسعته بحيث يعمّ المعنى المجازي.
الرابع: إحراز كون المستعمل فيه مراداً للمتكلِّم جدّاً، وهذا أعلى مرتبةالدلالة التصديقيّة.