هل المقصود بالإفهام في هذا الخبر خصوص زرارة، فله العمل بظاهرهبعنوان الظنّ الخاصّ، وأمّا نحن فنضطرّ إلى التمسّك بذيل دليل الانسدادوإثبات حجّيّته من باب الظنّ المطلق؟! أو الوجدان حاكم بأنّه لا فرق بيننوبين زرارة في كيفيّة استفادة الحكم منه.
بل يمكن أن يدّعى أنّ الأحكام الصادرة في جواب الأسئلة ليست جميعهممّا يبتلي بها السائل، بل كان غرض السائل غالباً طرح السؤال ليكتب جوابهلسائر الشيعة في الأزمنة المتأخّرة، ولا يبعد أنّ الأئمّة عليهمالسلام أنفسهم كانويحرّضون أصحابهم على السؤال وكتابة الجواب، ليدّخر الأحكام في الكتبوالجوامع لمن تأخّر من الشيعة.
والحاصل: أنّ القرآن العظيم والمجاميع الحديثيّة من قبيل الكتب المصنّفةلرجوع كلّ من ينظر إليها، فكلّ مسلم إلى يوم القيامة مقصود بالإفهام منهما،ولافرق في ذلك بين الآيات المشتملة على الخطاب الشفاهي وغيرها، ولا بينالأحاديث الواردة في جواب سؤال الرواة وبين ما صدر عنهم عليهمالسلام ابتداءً.
وأمّا الأمر الثالث: فقد فصّل جماعة من الأخباريّين بين ظواهر الكتابوظواهر الأخبار، فقالوا بحجّيّة الثاني دون الأوّل.
ويمكن أن يستدلّ على حجّيّة ظواهر الكتاب باُمور:
الأوّل: أنّا إذا لاحظنا أمرين استنتجنا منهما حجّيّتها:
أ ـ ما تقدّم من أنّ العقلاء يعملون بالظواهر في التفهيم والتفهّم، وليسللشارع طريقة اُخرى في ذلك.
ب ـ أنّ القرآن كتاب هداية يخرج من تمسّك به من الفتن والظلماتالاعتقاديّة والعمليّة إلى السعادة الدنيويّة والاُخرويّة، وهذا أمر ضروري ليحتاج إلى إقامة برهان(1).
نعم، في القرآن آيات محكمة ومتشابهة، كما يشهد عليه نفسه حينما يقول:«هُوَ الَّذِىآ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَـبَ مِنْهُ ءَايَـتٌ مُّحْكَمَـتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـبِ وَأُخَرُمُتَشَـبِهَـتٌ»(2).
لكنّ الظواهر من قبيل المحكمات، لأنّ المتشابه بما له من المعنى لا يعمّالظاهر كما سيجيء.
وبالجملة: إذا ثبت أنّ القرآن لم يكن من قبيل الألغاز والمعمّيات، بل كانمرجعاً للناس، هادياً لهم، مقرّباً إيّاهم إلى السعادة الأبديّة، وكان تفهيممقاصده في مقام الهداية بطريقة العقلاء، كانت ظواهره كظواهر كلماتهم معتبرةقابلة للاحتجاج.
الثاني: أنّه لا شبهة في أنّ القرآن معجزة خالدة لإثبات نبوّة سيّدنمحمّد صلىاللهعليهوآله ، ومن اللوازم القطعيّة للمعجزة أن يتحدّى صاحبها بها، ضرورة أنّ
- (1) فلانحتاج لإثبات ذلك إلى ظواهر الآيات الكثيرة الواردة في ذلك كي يناقش فيه الخصم بأنّه مصادرةبالمطلوب. م ح ـ ى.
(صفحه224)
الاُمور الخارقة للعادة لم تكن معجزة إذا كانت فاقدة للتحدّي.
والقرآن الكريم قال في مقام التحدّي: «قُل لَّـلـءِنِ اجْتَمَعَتِ الاْءِنسُ وَ الْجِنُّعَلَىآ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْءَانِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِى وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍظَهِيرًا»(1).
ثمّ تنزّل عن ذلك بقوله: «أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَلـهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِىمُفْتَرَيَـتٍ وَ ادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ»(2).
ثمّ تنزّل عن ذلك أيضاً وارتضى في مقام التحدّي بإتيان من سوى اللّه تعالىجميعاً سورة واحدة مثل القرآن، ولو كانت سورة قصيرة كسورة الكوثر، فإنّهقال: «وَ إِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِى وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَـدِقِينَ»(3).
ولاريب في أنّ ظواهر هذه الآيات مرادة للّه تعالى قطعاً، لما عرفت من أنّالتحدّي من لوازم المعجزة، فلا يمكن أن يراد بها غير التحدّي الذي هيظاهرة فيه، وحجّيّة ظواهر هذه الآيات تستلزم حجّيّة ظواهر جميعها، إذ لوكان القرآن من قبيل الألغاز التي لا يدركها الناس لأجابوا عن تحدّياته بأنّا لنفهم منه شيئاً كي نأتي بمثله.
لا يقال: إنّ أساس هذا الاستدلال هو التمسّك بظاهر آيات التحدّي، وهومصادرة بالمطلوب.
فإنّه يقال: أساس هذا الدليل هو أنّ القرآن حيث يكون معجزة خالدةباقية إلى يوم القيامة فلابدّ له من التحدّي والدعوة إلى الإتيان بمثله، فكانتالآيات الظاهرة في ذلك حجّة لا محالة.
ج4
الثالث: حديث الثقلين الذي هو معروف بل متواتر بين الفريقين، وهو أنّرسول اللّه صلىاللهعليهوآله قال في أواخر عمره الشريف: «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إنتمسّكتم بهما لن تضلّوا: كتاب اللّه وعترتي»(1).
وليس في الاستدلال بالأخبار لإثبات حجّيّة الكتاب شائبة المصادرةبالمطلوب، لاعتراف الخصم المنكر لحجّيّة ظواهر الكتاب بحجّيّة ظواهرالأخبار.
ولا يقدح في الاستدلال ما يرى من الاختلاف في متن الحديث، حيث نقلفي كلمات بعض المتعصّبين: «كتاب اللّه وسنّتي» مكان «كتاب اللّه وعترتي» فإنّمورد الاستدلال هو «كتاب اللّه» الذي اتّفق عليه الفريقان.
وتقريب الاستدلال بهذا الحديث أنّ التمسّك بالقرآن والعترة ليس صرفالاعتقاد بكون القرآن كتاباً منزّلاً من عند اللّه سبحانه ومعجزة خالدةللنبيّ صلىاللهعليهوآله وكون العترة الطاهرة خلفائه صلىاللهعليهوآله ، إذ لا ملازمة بين هذا الاعتقاد وبينالصيانة الأبديّة من الضلالة التي تستفاد من كلمة «لن تضلّوا».
بل المراد من التمسّك بهما هو التمسّك من حيث الاعتقاد والعمل كليهما،وحيث إنّ نصوص القرآن قليلة جدّاً بحيث لا يمكن الاكتفاء بها للوصول إلىالسعادة الأبديّة، فلا محالة كان المراد هو التمسّك بنصوصه وظواهره كلتيهما.
وبالجملة: لا يعقل أن يكون القرآن الكريم حافظاً أبديّاً للإنسان منالضلالة ـ كما هو مضمون الرواية ـ إلاّ بالاعتقاد بكونه كتاباً منزّلاً من عند اللّهأوّلاً، والعمل بجميع نصوصه وظواهره ثانياً.
الرابع: الأحاديث الكثيرة الآمرة بعرض الروايات على الكتاب ليتميّزالمدسوساتالمجعولات منالصحاح المقبولات، مثلقوله عليهالسلام : «ماوافق كتاباللّه
- (1) وسائل الشيعة 27: 33، كتاب القضاء، الباب 5 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.