(صفحه232)
كما تقدّم.
بل القول بقصور أفهامنا عن إدراك ظواهر القرآن ـ كما تكون قاصرة عنإدراك متشابهاته ـ ينافي كونه معجزة خالدة تدعو جميع من سوى اللّه تعالىإلى الإتيان بمثله، وينافي أيضاً كونه مرجعاً للناس، هادياً لهم، مقرّباً إيّاهم إلىالسعادة الدنيويّة والاُخرويّة، ضرورة أنّه لا يصحّ دعوة الناس إلى الإتيانبمثل كلام مغلق مجمل لا يفهمه أحد منهم، ولا يمكن لهم التمسّك به كي يهتدووينالوا السعادة الأبديّة كما تقدّم.
وأمّا ما استشهد به من كلام الإمام عليهالسلام في جواب أبي حنيفة، ففيه: أنّه عليهالسلام لميرد أنّ أبا حنيفة عاجز عن درك ظواهر القرآن، بل حيث ادّعى أبو حنيفةمعرفة جميع كتاب اللّه حقّ معرفته خطّأه الإمام عليهالسلام بقوله: «ما ورّثك اللّه منكتابه حرفاً» يعني لا تقدر على فهم حرف واحد من حروف القرآن التييحتاج فهمها إلى الوراثة الإلهيّة.
وأمّا حمل اللفظ على ظاهره فلا يحتاج إلى تعليم من اللّه ووراثة منه، بليكفي فيه الاطّلاع على اللغة وأدبيّات العرب، بخلاف ما هو غير ظاهر المعنىمن الآيات، فإنّها لا يمكن درك معانيها إلاّ بالعناية الإلهيّة التي لم يشمّ رائحتهأبو حنيفة وأمثاله.
وأمّا ما تقدّم من رواية زيد الشحّام فلا يرتبط بالمقام؛ لأنّ الإمام عليهالسلام خطّقتادة في أنّه كان يفسّر القرآن، وحمل اللفظ على ظاهره لا يعدّ تفسيراً، لأنّهعبارة عن كشف القناع وإظهار ما هو مستور، والحمل على الظاهر ليس منهذا القبيل كما تقدّم.
وقوله عليهالسلام في ذيل الرواية: «إنّما يعرف القرآن من خوطب به» يعني به«تفسير القرآن» بقرينة صدرها.
ج4
ومنها: أنّ ظواهر الكتاب وإن لم تكن مجملةً ذاتاً إلاّ أنّا نعلم بطروّ التقييدوالتخصيص والتجوّز فيها، وذلك ممّا يسقطها عن الظهور.
ولا يخفى أنّ لهذه الشبهة احتمالين:
أحدهما: دعوى وجود ما يسقطها عن الظهور في الروايات.
ثانيهما: دعوى أنّه كان يتّصل بظواهر القرآن ما يخصّصها أو يقيّدها أويصرفها إلى المعنى المجازي لكنّه لم يصل إلينا، وهذا يبتني على قبول تحريفالقرآن.
أمّا الاحتمال الأوّل: ففيه أوّلاً: النقض بظواهر السنّة، فإنّا نعلم بطروّ مخالفةالظاهر فيها إجمالاً.
وثانياً: أنّ هذا لا يوجب السقوط عن الظهور، وإنّما يوجب الفحص عمّيوجب مخالفة الظاهر، فبعد الفحص واليأس عن ذلك يجوز حمل اللفظ علىظاهره من العموم والإطلاق والمعنى الحقيقي، وقبله لا يجوز، ولا فرق في ذلكبين ظواهر الكتاب والسنّة.
البحث حول تحريف القرآن
وأمّا الاحتمال الثاني: فورد في بعض الروايات المجعولة أنّه حذف من بينالشرط والجزاء في قوله تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى الْيَتَـمَى فَانْكِحُواْ مَطَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَآءِ مَثْنَى وَثُلَـثَ وَرُبَـعَ»(1) أكثر من ثلث القرآن(2).
واغترّ بعضهم ـ كالمحقّق الخراساني رحمهالله ـ بمثل هذا الحديث وقال:«ويساعده(3) الاعتبار»(4). مع أنّه رحمهالله لو راجع التفاسير ولاحظ ما قاله
- (3) أي يساعد وقوع التحريف في القرآن. م ح ـ ى.
(صفحه234)
المفسِّرون في توجيه المناسبة بين الشرط والجزاء في الآية لصار مأموناً منهذه الزلّة العظيمة.
والقول بتحريف القرآن ما كان يعيّرنا به علماء أهل السنّة قديماً وحديثاً،مع أنّه يمكن أن يدّعى أنّه مذهب أكثر علمائهم، لأنّهم يقولون بنسخ التلاوةبالنسبة إلى بعض ما كان في القرآن، وهو بعينه القول بالتحريف بالنقيصة، وإنغيّروا اسمه(1).
لكنّ المحقّقين وأكابر علماء الشيعة أنكروا تحريف القرآن.
فهذا تفسير «مجمع البيان» ذكر في مقدّمته:
فأمّا الزيادة فيه(2) فمجمع على بطلانه، وأمّا النقصان فيه فقد روى جماعةمن أصحابنا وقوم من حشويّة العامّة أنّ في القرآن تغييراً ونقصاناً، والصحيحمن مذهب أصحابنا خلافه، وهو الذي نصره المرتضى «قدّس اللّه روحه»واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيّات، وذكر فيمواضع أنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار والوقايعالعظام والكتب المشهورة وأشعار العرب المسطورة، فإنّ العناية اشتدّتوالدواعي توفّرت على نقله وحراسته، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه فيما ذكرناه، لأنّالقرآن معجزة النبوّة ومأخذ العلوم الشرعيّة والأحكام الدينيّة، وعلماءالمسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية، حتّى عرفوا كلّ شيء اختلف فيهمن إعرابه وقرائته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيّراً أو منقوصمع العناية الصادقة والضبط الشديد؟! وقال أيضاً «قدّس اللّه روحه»: إنّ العلم
- (2) راجع لتوضيح ذلك: «البيان في تفسير القرآن» للسيّد الخوئي رحمهالله ، ص224.
- (3) أي في القرآن. م ح ـ ى.
ج4
بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته، وجرى ذلك مجرى معلم ضرورة من الكتب المصنّفة، ككتاب سيبويه والمزني، فإنّ أهل العنايةبهذا الشأن يعلمون من تفصيلهما ما يعلمونه من جملتهما حتّى لو أنّ مدخلأدخل في كتاب سيبويه باباً في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز وعلم أنّهملحق وليس من أصل الكتاب، وكذلك القول في كتاب المزني، ومعلوم أنّالعناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوينالشعراء. وذكر أيضاً «رضي اللّه عنه» أنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مجموعاً مؤلّفاً على ما هو عليه الآن، واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرّسويحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتّى عيّن عليّ عليهالسلام جماعة من الصحابة فيحفظهم له وأنّه كان يعرض على النبيّ صلىاللهعليهوآله ويُتلى عليه وأنّ جماعة من الصحابةمثل عبداللّه بن مسعود واُبيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبيّ صلىاللهعليهوآله عدّة ختمات، وكلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعاً مرتّباً غير مبتورولا مبثوث، وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإماميّة والحشويّة لا يعتدّبخلافهم، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث، نقلوأخباراً ضعيفة ظنّوا صحّتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته(1)،إنتهى كلامه.
والبحث عن منشأ تحقّق فكرة التحريف بين الشيعة يعطي أنّها ناشئة عنتحريك الأجانب لتضعيف التشيّع.
ويشهد عليه ما حدث بين المتأخّرين، من أنّ بعض جواسيس الأجانبوسوس في صدور بعض الشيعة السذّج من المحدّثين، فاشتغل ذلك المحدّثالشيعي بتأليف كتاب حول تحريف القرآن، وكان يرجع ذلك الجاسوس إليه
- (1) مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 15.
(صفحه236)
كلّ اُسبوع ويأخذ منه ما كتبه، واستنسخ منه نسخة اُخرى، لغرض أنّه لوتغيّر رأيه وندم عن فعله فلم ينفعه الندم.
وبالجملة: كيف يمكن أن يعتقد مسلم بتحريف كتاب يكون معجزة وحيدةخالدة على إثبات دينه وبقائه إلى يوم القيامة؟!
اختلاف القراءات
نعم، للقرآن قراءات سبعة أو عشرة، لكنّها ليست متواترة، بل نقلتبأخبار آحاد(1). على أنّها ليست قراءات المعصومين عليهمالسلام كي تكون حجّة لنا،بل هي قراءة مثل «عاصم، حفص، ابن كثير» وسائر القرّاء.
ودعوى تواتر هذه القراءات عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ممنوعة، إذ لو كان صلىاللهعليهوآله يقرآية «حَتَّى يَطْهُرْنَ»(2) مثلاً تارةً بالتخفيف واُخرى بالتشديد لنسب اختلافالقراءات إليه صلىاللهعليهوآله ولم يقولوا: «هذه قراءة عاصم» و«تلك قراءة حفص»وهكذا.
والحاصل: أنّ هذه القراءات اجتهادات من قبل القرّاء السبعة أو العشرة،وغاية قيمتها جواز القراءة بها، وأمّا الاحتجاج بها في الفقه لإثبات الأحكامالشرعيّة فلا.
ومن أراد تفصيل البحث حول مسألتي تحريف القرآن واختلاف قراءاتهفليراجع المباحث التمهيديّة لتفسير القرآن(3).
هذا تمام الكلام في حجّيّة ظواهر الكتاب.
- (1) ولا تثبت القرآنيّة بالخبر الواحد. م ح ـ ى.
- (3) راجع مجمع البيان في تفسير القرآن 1: 11 و 15، والبيان في تفسير القرآن: 135 ـ 183، و 213 ـ 287.م ح ـ ى.