(صفحه248)
أفتوا بعصمة ماء البئر باستناد قوله عليهالسلام : «ماء البئر واسع لا يفسده شيء إلاّ أنيتغيّر به»(1) وهذه الرواية كانت بأيدي القدماء أيضاً، ولكنّهم مع ذلك كانويفتون بتنجّس ماء البئر بصرف ملاقاته للنجاسة؟
والحاصل: أنّ الإجماع لا يكاد يكشف عن وجود حجّة معتبرة لو وصلتإلينا لأفتينا نحن أيضاً بالحكم المجمع عليه.
البحث حول الملازمة العاديّة بين الإجماع وبين رضا المعصوم عليهالسلام
ومنها: الحدس برأي المعصوم عليهالسلام ورضاه من طريق اتّفاق العلماء في جميعالأعصار والأمصار على حكم، بدعوى الملازمة العاديّة بين اتّفاق المرؤوسينعلى شيء وبين رضا الرئيس به.
وهو قريب جدّاً، ضرورة أنّ من ورد في مملكة، فرأى في كلّ بلد وقريةوكورة وناحية منها أمراً رائجاً بين أجزاء الدولة ـ كقانون النظام(2) مثلاً يحدس بأنّ هذا قانون المملكة وممّا يرضى به رئيس الدولة.
ولا يخفى أنّ هذا الوجه يختصّ بأمرين:
أ ـ أنّ الملازمة المدّعاة هي الملازمة العاديّة التي لا تفيد أزيد من الاطمئنانالذي يعامل معه معاملة العلم، بخلاف قاعدة اللطف، فإنّها لو تمّت لأفادتعلماً باتّاً برأي المعصوم عليهالسلام .
ب ـ أنّه لا يكفي في الكشف عن موافقة المعصوم عليهالسلام اتّفاق علماء عصرواحد، بل لابدّ من اتّفاقهم في جميع الأعصار من زماننا هذا إلى زمنالمعصومين عليهمالسلام .
- (1) الكافي 3: 5، كتاب الطهارة، باب البئر وما يقع فيها، الحديث 2.
- (2) يقال له بالفارسيّة: «سربازى». م ح ـ ى.
ج4
ولاريب في أنّ فقهاء الشيعة ـ الذين يرتبطون كمال الارتباط بأهلالبيت عليهمالسلام ورواياتهم وينظرون في حلالهم وحرامهم ويعرفون الأحكامالصادرة منهم عليهمالسلام (1) ويتحمّلون المشاقّ الكثيرة في طريق استنباط أحكامالشريعة ـ إذا اتّفقوا على مسألة في جميع الأعصار والأمصار، امتنع عادةً أنيكون رأي رئيسهم وإمامهم عليهالسلام على خلافها، وإن لم يمتنع عقلاً.
ولعلّه أجود وجه لإثبات حجّيّة الإجماع المحصّل وكشف رأي المعصوم عليهالسلام به.
إشكال المحقّق النائيني رحمهالله على الملازمة العاديّة
ولكن ناقش فيه المحقّق النائيني رحمهالله بقوله:
وأمّا مسلك الملازمة العاديّة: فاتّفاق المرؤوسين على أمر إن كان نشأ عنتواطئهم على ذلك كان لتوهّم الملازمة العاديّة بين إجماع المرؤوسين ورضالرئيس مجال، وأمّا إذا اتّفق الاتّفاق بلا تواطئ منهم على ذلك، فهو ممّا ليلازم عادةً رضا الرئيس ولا يمكن دعوى الملازمة(2)، إنتهى كلامه.
نقد كلام المحقّق النائيني رحمهالله في المقام
وهو من الغرائب، ضرورة أولويّة إنكار الملازمة في صورة تواطئهم علىشيء، لإمكان أن يكون تواطئهم عليه معلّلاً بأمر غير ما هو واقع، وأمّا مععدمه فلا احتمال في البين، ويستلزم الاطمئنان برضا الرئيس.
كلام السيّد البروجردي رحمهالله في المسألة
- (1) كما ورد بهذا المضمون مقبولة عمر بن حنظلة. الكافي 1: 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث،الحديث 10.
- (2) فوائد الاُصول 3: 150.
(صفحه250)
نعم، لقد أجاد سيّدنا الاُستاذ البروجردي رحمهالله ، حيث فصّل بين المسائلالكلّيّة الأصليّة المبتنية على النقل المحض وبين المسائل العقليّة أو التفريعيّة،فقال بثبوت الملازمة العاديّة بين الإجماع وبين الكشف عن رأي المعصوم عليهالسلام في الاُولى، دون الثانية والثالثة، فإنّه رحمهالله بعدما تلقّى الملازمة العاديّة بالقبول، قالما هذا نصّه:
ولكن يمكن أن يقال: بأنّا لا نسلّم تماميّة هذه الطريقة بنحو الكلّيّة بحيثيحكم بالملازمة العاديّة بين اتّفاق العلماء على أمر وبين العلم بتلقّيهم ذلك منالمعصوم عليهالسلام أو وصول دليل معتبر منه إليهم، ألا ترى أنّ علماء المعقول معتعمّقهم ودقّة أنظارهم كثيراً ما اتّفقوا على بعض المسائل في أعصار متتالية، ثمّظهر خلافها بالدليل والبرهان؟
نعم، لو كانت المسألة من المسائل النقليّة المحضة واتّفق عليها الفقهاء الذينلا يتعبّدون إلاّ بالنقل طبقةً بعد طبقة إلى عصر المعصومين عليهمالسلام علم منه قهرأنّهم تلقّوها منهم بعد ما أحرزنا أنّهم لم يكونوا ممّن يفتي بالقياسوالاستحسانات العقليّة والاعتبارات الظنّيّة.
ولكن هذا الكلام يجري في المسائل الكلّيّة الأصليّة المبتنية على النقلالمحض، نظير بطلان العول والتعصيب(1) في المواريث الذي هو من ضروريّات
- (1) العول: «زيادة الفريضة لقصورها عن سهام الورثة على وجه يحصل به النقص على الجميع بالنسبة»والتعصيب: «توريث ما فضل عن السهام من كان من العصبة». جواهر الكلام 39: 99 و106.
وقال الإمام الخميني رحمهالله في حكم العول: الثالثة: ما إذا كانت التركة أقلّ من السهام، وذلك بدخول بنت أوبنتين فصاعداً، أو اُخت من قبل الأبوين أو الأب، أو اُختين كذلك فصاعداً في الورثة، فيرد النقص عليهنّ،ولا يعول بوروده على الجميع بالنسبة، فلو كان الوارث بنتاً وزوجاً وأبوين يردّ فرض الزوج والأبوين،ويرد النقص ـ وهو نصف السدس ـ على البنت، ولو كانت في الفرض بنات متعدّدة يرد النقص ـ وهوالربع ـ عليهنّ، وكذا في الأمثلة الاُخر.
وقال رحمهالله في حكم التعصيب: الثانية: ما لو كانت التركة أزيد من السهام فتردّ الزيادة على أرباب الفروض،ولا تعطى لعصبة الميّت، وهي كلّ ذكر ينتسب إليه بلا وسط أو بواسطة الذكور، فلو كان الوارث منحصرببنت واحدة واُمّ يعطى النصف البنت فرضاً والسدس الاُمّ فرضاً، ويردّ الثلث الباقي عليهما أرباعاً علىنسبة سهمهما، ولو انحصر ببنات متعدّدة واُمّ يعطى الثلثان البنات فرضاً والسدس الاُمّ فرضاً، والسدسالباقي يردّ عليهما أخماساً على نسبة السهام، والعصبة في فيها التراب. تحرير الوسيلة 2: 359. م ح ـ ى.
ج4
فقه الشيعة بتلقّيهم إيّاه من الأئمّة عليهمالسلام .
وأمّا المسائل العقليّة المحضة، كالمسائل الكلاميّة(1)، وكذا المسائل التفريعيّةالتي استنبطها الفقهاء من المسائل الأصليّة والقواعد الكلّيّة بإعمال النظروالاجتهاد(2)، فاتّفاق العلماء فيها لا يكشف عن تلقّيها عن المعصومين عليهمالسلام ،بل يكون من باب التوافق في الفهم والنظر(3)، إنتهى كلامه رحمهالله .
وهو كلام جيّد متين.
والحاصل: أنّ كلّ الفقهاء في جميع الأعصار والأمصار إذا اتّفقوا على مسألةليست من المسائل العقليّة أو التفريعيّة، بل من المسائل النقليّة الأصليّة الكلّيّةكان كاشفاً عن أنّهم تلقّوها عن المعصومين عليهمالسلام .
الإجماع المنقول بالخبر الواحد
إذا عرفت هذا، فاعلم أنّه لا إشكال في حجّيّة الإجماع المنقولبالخبر المتواتر(4)، لإفادة التواتر العلم، فكأنّ المنقول إليه نفسه حصّلالإجماع.
إنّما الإشكال في اعتبار الإجماع المنقول بالخبر الواحد، فإنّهم اختلفوا في أنّ
- (1) وكوجوب مقدّمة الواجب الذي يبتني على الملازمة العقليّة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّمته.منه مدّ ظلّه.
- (2) كموارد استنباط الحكم من الإطلاق والعموم ونحوهما، فإنّ اتّفاق العلماء فيها لا يكشف عن تلقّيها عنالمعصوم عليهالسلام ، لأنّ بيانها ليس من وظائفه عليهالسلام ، فإنّهم قالوا: «علينا إلقاء الاُصول وعليكم التفريع». وسائلالشيعة 27: 62، كتاب القضاء، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.
- (4) بشرط تساوي المنقول إليه والناقل في وجه حجّيّة الإجماع المحصّل، كما إذا اعتقد كلاهما بأنّه حجّةمن باب الحدس والملازمة العاديّة. م ح ـ ى.
(صفحه252)
أدلّة حجّيّة خبر الثقة أو العادل، على فرض تماميّتها، هل تعمّه أيضاً ـ باعتبارأنّه أيضاً نقل رأي المعصوم عليهالسلام في قالب الإجماع ـ أم لا(1)؟
الحقّ في المسألة
الحقّ هو الثاني؛ لأنّ عمدة الأدلّة في باب حجّيّة الخبر هي بناء العقلاءبضميمة عدم ردع الشارع عنه، وحيث إنّ بناء العقلاء دليل لبّي فلابدّ منالاكتفاء بالقدر المتيقّن منه، وللقدر المتيقّن من الخبر المعمول به عند العقلاءخصوصيّتان(2):
أ ـ أن يكون المخبر به أمراً محسوساً وجداناً، كالإخبار بمجيء زيد منالسفر، أو قريباً من الحسّ، كالإخبار بشجاعة عمرو، فإنّ الشجاعة وإنكانت من الاُمور النفسانيّة التي لا تُدرك بالحسّ، إلاّ أنّ أثرها محسوسمشاهد بالوجدان، فتكون نفس الشجاعة أمراً قريباً من الحسّ.
فإذا كان المخبر به كذلك ترتّب عليه الأثر عند العقلاء، وذلك لأنّ احتمالعدم صحّة الخبر إمّا ناشٍ عن احتمال كذب المخبر عمداً، وهو يندفع بسببكون المخبر ثقة فرضاً، أو لاحتمال خطأه، وهو أنّ عمراً جاء من السفر، لكنّهتخيّل أنّه كان زيداً، وهذا أيضاً يندفع بأصالة عدم الخطأ التي هي من الاُصولالعقلائيّة.
وبالجملة: الخبر الواحد حجّة فيما إذا كان المخبر به أمراً حسّيّاً أو قريباً منالحسّ، وأمّا إذا كان من حدسيّات المخبر فلم يحرز بناء العقلاء على العمل به
- (1) وترتيب البحث كان يقتضي تأخّر هذه المسألة عن الكلام حول حجّيّة الخبر الواحد، لتفرّعها عليه، لكنّالاُصوليّين قدّموها. منه مدّ ظلّه.
- (2) لو كان الخبر واجداً لكلتا الخصوصيّتين لعمل العقلاء به، ولو كان فاقداً لإحداهما لشككنا في بنائهمعلى العمل به، ولا مجال للتمسّك بالأدلّة اللبّيّة في الموارد المشكوكة، بخلاف الأدلّة اللفظيّة، حيث يجوزالتمسّك بإطلاقها وعمومها ونحوهما في موارد الشكّ في التخصيص والتقييد. م ح ـ ى.